مستقبل مصر يقع على كاهل أبنائها

نجحت مصر ذات الكثافة السكانية الأعلى في العالم العربي، في استعادة توازنها السياسي والأمني والاجتماعي بعد أعوام من الاضطرابات، وذلك على النقيض من العديد من جيرانها. تسير مصر في الاتجاه الصحيح، ويمكن أن تتحول، بفضل الحكم الرشيد، إلى قصة نجاح في المنطقة. غالباً ما يغيب عن الأذهان أنه في المرحلة الممتدة بين عامَي 1926 و1953، كان المصريون من الأكثر ثراء وثقافة وتقدّماً بين الشعوب العربية. كانت القاهرة المدينة الأنظف والأجمل على وجه الأرض. وكانت الخزائن المصرية تفيض بالأموال. في مرحلة معينة، كان الجنيه المصري مسبوكاً من 7.43 غرامات من الذهب، وكانت قيمة الدولار تساوي 25 قرشاً فقط. في أربعينيات القرن العشرين، كانت البورصة المصرية في المرتبة الرابعة عالمياً على صعيد حجم التداولات. قامت مصر بإقراض بريطانيا ما توازي قيمته الآن 29 مليار دولار خلال الحرب العالمية الثانية، وطلبت منها الولايات المتحدة تقديم مساعدات مالية إلى البلدان الأوروبية. استقطبت مصر اليونانيين والإيطاليين والأرمن وسواهم ممّن كانوا يبحثون في معظم الأحيان عن وظائف بسيطة. كان العمل في مصر يُعتبَر حلماً. وفي تلك الفترة، لم تتجاوز نسبة البطالة مطلقاً اثنين في المئة. سعت أثيوبيا وأوغندا إلى الوحدة مع مصر. وعام 1862، أرسلت اليابان بعثة إلى مصر من أجل استخلاص العِبر من تجربتها والاقتداء بها ومحاكاة نجاحها. كانت مدينة الإسكندرية الكوزموبوليتية تُلقَّب ب"كوت دازور" الشرق، كما يظهر جلياً في الأفلام السوداء والبيضاء التي أُنتِجت في العصر الذهبي للسينما المصرية وفي الأفلام الإخبارية المؤرشَفة من إنتاج شركة "باثي" البريطانية الرائدة؛ كان ميناؤها محطة لخطوط الرحلات البحرية الأوروبية المتوجّهة إلى الهند وسنغافورة. وكانت مدرسة فيكتوريا كولدج المرموقة في المدينة تضم أمراء بين طلاّبها. كان مصمّمو الأزياء يعرضون مجموعاتهم الجديدة في القاهرة قبل باريس. وكانت سيارات التاكسي عبارة عن سيارات "كاديلاك" أميركية فارهة. في تلك الأيام، كانت البلاد تشتهر بإنتاج أجود أنواع القطن، وذاع صيتها أيضاً لإنشائها أول محطة تعمل بواسطة الطاقة الشمسية في العالم. برزت شخصية الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر ضمن الضباط الأحرار الذين أتاحوا للمصريين تحقيق استقلالهم عن بريطانيا، وكان اندفاعه العروبي القومي مصدر وحي استلهم منه العرب في كل مكان. كان سعيه إلى تحسين حياة الفقراء جديراً بالتقدير، لكن عدداً كبيراً من مبادراته الاقتصادية الاشتراكية كان، للأسف، مضلَّلاً. كما أن الحروب مع إسرائيل ساهمت في استنزاف الموارد المالية المصرية. يشعر المصريون باشتداد الوطأة عليهم بسبب ارتفاع الأسعار، لكنهم يتطلعون إلى الأمام بعين الثقة واليقين. زرت القاهرة في مناسبات عدة خلال العام المنصرم. تعمّها الفوضى وتعاني من زحمة سير خانقة، لكنها تبقى من المدن المفضّلة لدي، فهي تقدّم مختلف جوانب الحياة في صورة واقعية جداً من دون تكلّف. أياً كان وضع المصريين أو الأعباء التي يتحملونها على الصعيد الشخصي، لا تفارق البسمة وجوههم، وهم مستعدّون دائماً للإبتسام ،المزاح. العاصمة أشبه بسيدة عجوز غامضة ترتدي ثوب سهرة باهت اللون، لكن جمالها يشعّ من وجهها المجعّد. الغد ملكٌ لورثتها، الشباب. إنهم كنز مصر الحقيقي، ويجب دعمهم في التعليم والفرص على السواء. شعر الشباب بخيبة أمل من النتائج التي أسفرت عنها ثورتهم؛ لقد تبدّدت أحلامهم بالحصول على فسحة أكبر من الحريات وتحقيق مزيد من الازدهار، ففقدت أقلية منهم إيمانها بوطنها الأم. لقد كان المثاليون على خطأ. فقد أُنعِم على بلادهم الشاسعة بمناخ رائع، وشواطئ خلابة، وموارد طبيعية (نفط، غاز، فوسفات، ذهب، وخام الحديد)، وتتمتع معالمها الأثرية بطاقاتٍ سياحية فريدة من نوعها. الأهم من ذلك أن هذه البلاد ملكٌ لهم، مع كل مزاياها وعيوبها. بدلاً من أن يتحسّر الشباب المصريون لأن بلادهم لم تصبحة نسخة عن أوروبا بين ليلة وضحاها، أو يسارعوا إلى التقدم بطلبات للهجرة إلى الولايات المتحدة، عليهم أن يشمّروا عن سواعدهم. بلادهم بأمس الحاجة إلى ما يتمتعون به من طاقة وروح مبادرة وابتكار... بلدهم بأمس الحاجة إلى حبهم، تماماً مثل أمٍّ خرجت للتو من العناية المركزة. لا أحد يدير ظهره لوالدته أو والده عندما يكونان في وقت شدّة. إذا لم نحب الأرض التي تحتضننا، فنحن يتامى تماماً مثل اللاجئين الذين يهربون من سوريا والعراق. لديّ شغفٌ وتعلقٌ شديدان بوطني الأم وأرضه منذ كان كل شيء من حولنا رمالاً. لم تخرج الإمارات من قبعة ساحر. لقد بنيناها معاً مدماكاً مدماكاً على أساس متين قوامه الوحدة والإيمان والأمل. بإمكان المصريين أن يفعلوا الشيء نفسه، أو توخيّا للدقّة، بإمكانهم أن يجعلوا بلادهم تنعم بالوفرة وحسن الطالع والازدهار من جديد، شرط أن يتحلّوا بالصبر وأن تكون لديهم حكومة مستقرة. لقد كانت معركة شاقّة، لكن البلاد تسلك الآن من جديد مساراً إيجابياً؛ واقتصادها المتداعي يستعيد عافيته ببطء إنما بخطى واثقة. على سبيل المثال، بلغت الاحتياطيات الأجنبية هذا الشهر أعلى مستوياتها منذ ستة أعوام، مع 28.5 مليار دولار. لقد أدّى تعويم الجنيه المصري إلى زيادة التضخم، لكن الجانب الإيجابي هو أنه ساهم في استقطاب قدر كبير من الاستثمارات الخارجية التي سجّلت زيادة "بنسبة 39 في المئة في النصف الأول من السنة المالية الراهنة"، بحسب وكالة "رويترز". يهدف قانون الاستثمار الذي دخل حيز التنفيذ مؤخراً إلى تحفيز المستثمرين الأجانب عبر تقديم خفوضات ضريبية كبيرة وإنشاء مناطق حرة معفيّة من الضرائب والرسوم الجمركية. ويشهد القطاع السياحي معافاة، على الرغم من أن روسيا والمملكة المتحدة تماطلان في إعادة تسيير الرحلات إلى القاهرة، بعدما جرى تعليقها إبان إسقاط الطائرة الروسية من طراز "متروجت". الخبر السار فعلاً هو أن مصر تخلّصت من مشكلاتها في قطاع الطاقة. لقد أعلن السفير البريطاني لدى مصر، جون كاسون، أن شركة النفط البريطانية British Petroleum سوف تستثمر 13 مليار دولار لـ"جعل مصر القوة العظمى الجديدة في مجال الطاقة". من المرتقب أن ينطلق في ختام العام الجاري إنتاج الغاز في حقل ظهر الضخم في البحر المتوسط الذي اكتشفته الشركة الإيطالية "إني"، ويُتوقَّع في هذا الإطار أن تنتقل البلاد من استيراد الطاقة إلى تصديرها. مما لا شك فيه أن الطريق لا يزال طويلاً. ففي موازاة الإنفاق على البنى التحتية، ينبغي على الحكومة الاستثمار في الرأسمال البشري، لا سيما في قطاعَي التعليم والرعاية الطبية اللذين هما دون المستوى المطلوب، باعتراف الرئيس المصري نفسه. إنّ خفض الدعم الحكومي للسلع بصورة تدريجية خطوة منطقية تماماً من الناحية الاقتصادية، لكن يجب إنشاء شبكة أمان فاعلة للشرائح الأشد فقراً في المجتمع. والأهم من ذلك، يجب التخلص من ثقافة الفساد والمحسوبيات المستشرية على نطاق واسع من أعلى الهرم إلى أسفله. ويجب أن يتمتع جميع المواطنين بالمساواة في الفرص انطلاقاً من الموهبة والكفاءة. يكمن الحل الطويل الأمد في أيدي المربّين، وفي البيانات المتلفزة عن الخدمة العامة، وفي فرض عقوبات صارمة على المخالفين. تعمل السلطات على تغيير الواقع الذي تعيشه البلاد. أخيراً، أوجّه نداء قوياً إلى جميع المصريين لزرع حب الوطن في نفوس أبنائهم وبناتهم. أبقوا هذه الشعلة متّقدةً ودعوها تتوهّج، وإذا تحلّت الحكومة بالصبر والعزيمة الكافيَين، تماماً كما حصل في النصف الأول من القرن العشرين، سوف يسير جميع المصريين أباةً مرفوعي الرأس وسيرغب الجميع في التشبّه بهم.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;