عندما ورد نبأ الهجوم الإرهابي في مانشستر، تملّكتني مشاعر الأسى. لطالما كانت لإنجلترا، حيث أملك منزلاً ريفياً، مكانة مميّزة في قلبي. لكن منذ أقدم شياطين عديمو الضمير على قتل أبرياء في لندن كانوا يستمتعون بأمسية صيفية جميلة، تحوّل الأسى إلى غضب شديد.
يقول شهود عيان إن القتلة صرخوا "نفعل هذا في سبيل الله" خلال طعنهم الأشخاص بطريقة عشوائية. طُعِنت إحدى السيدات 14 مرة. لا أدري أي إله يعبدون أو أي دين يتبعون. ما أعرفه أنه ليس إلهي ولا ديني. إنهم مجدِّفون متشدّدون يتخفّون خلف الإسلام في حين أن إلههم الوحيد هو الموت.
يحرّم القرآن الكريم قتل النساء والأطفال حتى في أزمنة الحرب، كما جعل الإسلام للنفس الإنسانية مكانة محترمة، فمدح في كتابه الكريم إحياء النفس وذم قتلها. فقال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} سورة المائدة ـ الآية 32. هؤلاء الأشخاص المجرمون لا يزهقون أرواح الناس في مختلف أنحاء العالم وحسب، بل يشنّون أيضاً حرباً ضد كل ما يمثّله ديني الإسلام، دين العدل والاعتدال، دين السلم والمسالمة، دين المحبة والتسامح.
قالت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي كفى. لقد أقرّت وأخيراً بأن المملكة المتحدة تسامحت أكثر من اللازم مع التطرف. لماذا استغرقت كل هذا الوقت للتوصل إلى ذلك الاستنتاج الذي لطالما حذّرتُ منه قبل سنوات طويلة، عندما كان تنظيم "داعش" يطلق الصوت لاستقطاب الأتباع في وسط لندن تحت أنظار الشرطة، وكانت أعلامه ترفرف فوق إحدى ضواحي العاصمة البريطانية؟
في ديسمبر 2014، كتبت في مقال بعنوان "المملكة المتحدة، جنّة المتطرفين" أن الأدلة المتراكمة تكشف أن التنظيمات الإسلامية الإرهابية تجتاح بريطانيا. وتوقّفت عند فضيحة "حصان طروادة"، وعند المدارس الرسمية في برادفورد التي تسعى إلى تطبيق أجندة متطرفة، والحرية الممنوحة لجماعة "المهاجرون" التي كان زعيمها المتشدد، أنجم شودري، يعمل على تجنيد المقاتلين في تنظيم "داعش".
يروّعني أن أحد منفّذي الهجوم في لندن، خرام بات، كان من المتعاطفين مع شودري وكان محط مراقبة من الاستخبارات العسكرية البريطانية منذ عام 2015. وكان مهاجم آخر محط رصد وتعقّب من الاستخبارات الإيطالية. والمعتدي الذي أقدم على قتل أربعة أشخاص في مارس الماضي في ويستمنستر، كان يخضع أيضاً للمراقبة من الاستخبارات العسكرية البريطانية التي قرّرت أنه لا يشكّل مصدراً للأذى. يبدو وكأن هناك نمطاً معيناً. ما الجدوى من تعقّب المشتبه بهم في حين أنهم يتمتعون بكامل الحرية لشنّ اعتداءات دموية ساعة يشاؤون؟ القصة نفسها تتكرر في فرنسا وبلجيكا.
حتى إن بريطانيا فرشت السجاد الأحمر ترحيباً بـ"الإخوان المسلمين". لم أصدّق عينَي عندما قرأت رسالة على الموقع الإلكتروني لوزارة الداخلية البريطانية تتضمن دعوةً إلى أعضاء الإخوان "المرموقين أو الناشطين سياسياً" للتقدّم بطلب الحصول على اللجوء في المملكة المتحدة، مع العلم أنها مؤسسة مصنفة إرهابية. الأب المؤسس للعقيدة الإرهابية هو سيد قطب الذي كان من أبرز المرجعيات الإخوانية.
لقد وصلت ثقافة الصوابية السياسية في المملكة المتحدة إلى حدودها القصوى التي تلامس السخافة. تردّدت الشرطة في اعتقال عصابات باكستانية كانت تمارس الاستغلال الجنسي بحق 1400 طفل في بلدة روثرهام لأنها "لا تريد أن تعكّر صفو المركب الذي يقلّ على متنه جماعات متعددة الثقافات"، بحسب ما نقلته مجلة "فوربس" عن نائب في البرلمان البريطاني. إنه جنون مطلق، وسعيٌ إلى الاسترضاء. هل يُعقَل أن الحكومة البريطانية لم تفتح عينَيها جيداً إلا بعد وقوع ثلاثة هجمات في غضون شهرَين!
بعدما توضّحت الصورة جيداً، إليكم ما هو عليه الوضع الآن. على بريطانيا أن تواجه عدواً قاسياً لا يرحم في الداخل. بحسب تقرير نشره مؤخراً موقع "دايلي ميل"، "تبذل الاستخبارات العسكرية البريطانية جهوداً حثيثة لمتابعة 500 تحقيق في قضايا إرهابية في أي وقت من الأوقات، وقد أحبطت خمس مؤامرات في الأشهر الخمسة الماضية". لقد حذّرت الصحف البريطانية من عودة أعداد كبيرة من الجهاديين من سوريا والعراق حيث تتعرض جيوب "داعش" في الوقت الراهن للهجمات.
تراقب الأجهزة الأمنية حالياً 23 ألف مشتبه به في أعمال إرهابية، بينهم مئات العائدين من سوريا.
لا يتعدّى عدد الشرطيين بدوام كامل نحو 124 ألفاً في مختلف أنحاء البلاد. ولا يكونون جميعهم في المناوبة في الوقت نفسه. كيف يمكن أن نتوقّع منهم حماية كل الأهداف الناعمة من الهجمات؟ معظمهم عزّل. وفرقة عناصر الشرطة الذين تلقوا تدريباً خاصاً لمكافحة الإرهاب صغيرة نسبياً.
يبدو أن ماي تعتقد أن الحل هو في تنظيم الإنترنت عبر استمالة مزوّدي الخدمات في هذا المجال وحملهم على مساعدة الحكومات في فك شِفرات الرسائل المشبوهة ووضع اليد على المواقع الإلكترونية التي يستخدمها المتطرفون لنشر أيديولوجيتهم والتخطيط لارتكاب أعمال إرهابية. إنها خطوة مهمة، لكنها طويلة المدى، ولن يتوانى القتلة الذين يرتكبون جرائم جماعية عن إيجاد طرق بديلة للتواصل.
أنا من أشدّ المؤمنين بأنه ينبغي على رئاسة الوزراء البريطانية اعتماد مقاربة أكثر فاعلية، على أن تضع نصب عينَيها أن الحق الأول من حقوق الإنسان هو الحق في الحياة. حق المواطنين المسالمين في الحياة يجب أن يتقدّم دائماً على أي حقوق أخرى يدّعيها أشخاص يسلكون الطريق الذي يقودهم إلى الجحيم.
واقعياً، لا يمكن مراقبة 23000 مشتبه به متآمر وحاقد على مدار الساعة، ويتعذر فك رموز رسائلهم المشفّرة. في هذه الحالة، ثمة حل أوحد يمكن أن ينقذ الأرواح.
حاملو جوازات السفر البريطانية الذين يخضعون للمراقبة حالياً، يجب حجزهم في معسكرات اعتقال، ويُفضَّل أن تكون في جزيرة غير مأهولة. في الواقع، لقد دعا أحد مساعدي المفوّضين في "سكوتلاند يارد" إلى وضع المتشددين في السجون. فكرة جيدة. احبسوهم وارموا المفتاح بعيداً.
أما مَن يحملون جنسية مزدوجة والأشخاص غير البريطانيين فيجب ترحيلهم على الفور من دون منحهم حق الاستئناف، ويجب نقل ملفاتهم إلى بلدانهم الأم كي يتمكّن المسؤولون من التعامل معهم بالطريقة التي يرونها مناسبة.
يجب أن تتوقف المملكة المتحدة وسواها من الدول الأوروبية المستهدَفة عن توزيع جوازات السفر عشوائياً على الجميع. فعدد كبير من الأشخاص الذين يحصلون على هذه الجوازات لا يكنّون أي ولاء للبلد الذي يمنحهم جنسيته. كثيرون من البريطانيين والفرنسيين والبلجيكيين من أبناء الجيلَين الثاني والثالث انقلبوا بضراوة ضد الأرض التي منحت أهلهم أو أجدادهم الممتنّين ملاذاً آمناً من الحرب أو الفقر. ويجب أيضاً التوقف عن منح الجنسية إلى أطفال الأجانب الذين يولَدون في الأراضي البريطانية.
فضلاً عن ذلك، ينبغي على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أن يتصرّفا بحزم مع الدول المعروفة بتقديمها المال أو السلاح إلى التنظيمات الإرهابية أو المتطرفة، على غرار إيران وقطر؛ ويجب تجميد أصولها. والبلدان التي تغض النظر عن سابق تصور وتصميم بسبب سعيها وراء الاستثمارات الخارجية هي بلدان متواطئة، ويجب أن تخضع للمساءلة من شعوبها.
فوجئت عندما أُطفئت الأنوار في برج إيفل إبان الهجمات على مجلس الشورى وضريح الخميني في طهران. غرّد عمدة باريس قائلاً بأن العاصمة الفرنسية "تتضامن" مع إيران. بالطبع، نتعاطف مع ضحايا الإرهاب بغض النظر عن جنسيتهم، لكن أليس في الأمر مبالغة؟
ألا يدرك عمدة باريس أن طهران هي الراعية الأكبر للإرهاب، وأنها ساعدت نظام بشار الأسد على سفك دماء مئات آلاف السوريين؟ ما زلت أستشيط غضباً أمام مشهد الرئيس الإيراني حسن روحاني وهو ينعم باستقبال ملوكي في قصر الإليزيه فيما كان يحمل معه قائمة صفقات مربحة.
بصراحة، تساورني شكوك بشأن الواقعة برمتها. من المستغرب أن النواب الإيرانيين تابعوا جلستهم على وقع إطلاق النار في الخارج؛ إنه لأمر غريب فعلاً أن وسائل الإعلام مُنِعت من التقاط الصور للضريح الذي يُفترَض أن "أضراراً لحقت به".
يُزعَم أن منفّذي الهجمات إيرانيون. ومن جهته، انتهز تنظيم "داعش" الفرصة وتبنّى المسؤولية. غير أن إيران سارعت إلى تحميل عدوّتها اللدود، السعودية، المسؤولية من دون أن تقدّم أدنى دليل على ذلك. كان التوقيت مناسباً جداً.
لن يفاجئني إذا تبيّن أنها عملية وهمية من تدبير الحرس الثوري الإيراني لخداع المجتمع الدولي ودفعه نحو التصديق بأن إيران مستهَدفة، وليست دولة تموّل مجموعة كبيرة من التنظيمات الإرهابية، ومنها "داعش" و"القاعدة"، أو تسلّحها أو تتعاون معها.
ينكب المحللون دائماً على النقاش حول مصدر كل هذه الكراهية. هذا لا يجدي نفعاً في هذه المرحلة، ونتيجته الوحيدة إرهاق تفكيرهم من دون فائدة. عندما يكون الشخص مصاباً بالسرطان، لا يمضي أطباؤه أشهراً أو سنوات في النقاش حول أسباب المرض، بل يعملون على استئصاله كي يتمكّن من الشفاء.
ينبغي على القيادة البريطانية التخلص من الأساليب القديمة في التفكير. على المملكة المتحدة أن تواجه الواقع المؤلم بأن البلاد تمرّ في أسوأ حالات الطوارئ التي عرفتها منذ الحرب العالمية الثانية. فعلى الأقل كان النازيون في المقلب الآخر من القناة، ولم يكونوا يختبئون في كل بلدة ومدينة متحيّنين الفرصة للانقضاض على فريستهم.
أحيّي أبناء مانشستر ولندن على روح التحدّي والوحدة التي يتحلون بها. وأحيي شرطة لندن على استجابتها السريعة إزاء المأساة التي تنكشف فصولاً، والمسعفين الذين جازفوا بحياتهم لمساعدة المصابين، وأنظر بإعجاب شديد إلى المآثر البطولية لعدد كبير من الأشخاص العاديين الذين أرادوا بالطبع الابتعاد عن دائرة الخطر، لكنهم توقفوا من أجل مساعدة المحتضِرين. هؤلاء هم الأبطال، ويستحقون تحركاً حاسماً من حكومتهم رداً على الهجمات، كي لا يعانوا هم وأبناء وطنهم من صدمة مماثلة من جديد.
يجب تغيير السلوكيات، والتخلص من ثقافة الصوابية السياسية، وإعادة النظر في قوانين حقوق الإنسان. ما لم يصبح العلاج جذرياً بقدر الوباء، ستكون هناك مزيد من رسائل التعزية، ومن دقائق الصمت حداداً على الضحايا، ومن القبور المثقلة بالزهور.