من بين مسلسلات الحارة المصرية فى دراما 2017 يأتى مسلسل "رمضان كريم" للكاتب "أحمد عبد الله" وإخراج "سامح عبد العزيز" وإنتاج "السبكي" - بعد أن غير جلده تماما - بمثابة إعادة الاعتبار للحارة، كعمل فنى افتقدناه خلال السنوات الماضية، بعد ما سيطرت العشوائية والعنف والبلطجة التى أفقدت هذه النوعية من المسلسلات ذلك العبق الذى اعتدناه فى الأعمال التى تعرضت للحارة المصرية.
وبالفعل جعلنا "السبكي" بهذا العمل نشتم رائحة السحر والتراث والعمق، بعدما انحرفت كثير من تلك الأعمال عن المسار بتقديمها "رتوش" مشوهة عن الحارة المصرية، بدعوى أن الأعمال الفنية تعد انعكاسا لمدى تطور المجتمعات، بعدما حرصت غالبيتها على أن تظهر أجواء الحارة الشعبية باستعراض بعض المشاهد لعربات الفول ومحل الميكانيكى، ومقلب الزبالة المتلاحم مع المناطق السكنية، لتوصيل صورة عن حياة سكانها الذين لا يخجلون من العمل فى القمامة، ويتفانون من أجل قوت يومهم بالحلال ، بل وتظهرهم كمواطنين صالحين رافضين للإرهاب الأمر الذى يجبر المتطرفين على الهروب إلى الصحراء وجبل الحلال وسيناء، ويبدأون فى ممارسة دورهم فى الاعتداء على الجيش والشرطة ، ونشر البلطجة والقنابل البدائية الصنع فى الشوارع وإثارة الخوف بين الناس .
صحيح أن لوحة رمضان 2017 حظيت بمسلسلات "الحلال، الحرباية، طاقة القدر، خلصانة بشياكة" والتى لعبت على أوتار الحارة المصرية من حيث الشكل والمضمنون ، لكن " رمضان كريم " يأتى منفردا بصورة واقعية حية للحارة الشعبية ، وهؤلاء البشر الذين يتعايشون فيما بينهم ومدى الترابط بين الأهل والجيران، وتعمق المخرج والمؤلف فى سرد تفاصيل حياتهم بكل ما فيها من جمال وقبح وخير وشر، على غرار تجربتهما كثنائى ناجح فى عام 2010 حيث قدم المخرج "سامح عبد العزيز" والسيناريست "أحمد عبد الله" فى مسلسلهما "الحارة" ملامح تختلف عما هو سائد الآن من اختفاء الرومانسية والشجن والتوق للنضال من حارة الدراما التى أصبحت مرادفا للبلطجة والعشوائية، وهو على العكس تماما مما كتبه وأخرجه كثيرون عن الحارة المصرية، تلك الحارة التى عبر عنها بصدق وعمق وحرفية أديبنا العالمى نجيب محفوظ، فلم تكن الحارة بالنسبة له مجرد مكان سكنى يقطنه مجموعة من الحرافيش يحكى مغامراتهم، لكنها كانت تجسيدا لقصة الإنسانية كلها من لحظة الخلق وحتى الآن إذ كانت تعادل العالم كله فى نظره .
على مدار السنوات الماضية تناولت بعض الأعمال الدرامية شكل الحارة المصرية، لكن لم يتم تناولها بنفس جدارة مسلسل "رمضان كريم" بعد أن كانت خلت من تلك الروح التى اعتدنا مشاهدتها فى أعمال مثل مسلسل "حديث الصباح والمساء" لنجيب محفوظ والذى تناول من خلاله تاريخ مصر الاجتماعى والسياسى والاقتصادى، ورسم صورة للطقوس والبيوت المصرية آنذاك، كذلك "أرابيسك" لصلاح السعدنى ، والذى كتبه الراحل الكبير أسامة أنور عكاشة وصاغ من خلاله مفردات مجتمع بأكمله داخل تلك الحارة التى يقطن بها "حسن أرابيسك" والذى يمتلك ورشة لصناعة الإرابيسك، وإلقاء الضوء على شهامة وجدعنة أهل الحارة ، أيضا مسلسله الشهير "الشهد والدموع" ليوسف شعبان وعفاف شعيب إخراج إسماعيل عبد الحافظ ، وكيفية رسمه للبناء الدرامى للأحداث ، وشكل أهل الحارة قبل وبعد ثورة يوليو، وما حدث فى ذلك الوقت من انكسارات وانتصارات ، فضلا عن رائعته "ليالى الحلمية" والتى تعد واحدة من العلامات الخالدة فى الدراما المصرية التى يحفظ الجمهور أسماء شخصياتها كالمعلم "زينهم السماحى" رمز الجدعنة، والباشا "سليم البدري" بعنجهيته المعهودة، والعمدة "سليمان غانم" بنزقه ورعونته بميل جارف إلى الطابع الكوميدى اللذيذ فى هذا الزمن الجميل .
يأتى مسلسل "رمضان كريم" عبر شخوصة وأجوائه الغارقة فى الشعبية المصرية من خلال حارة فى مصر القديمة ، كدلالة رمزية تؤكد على جوهر الإنسان المصرى المعروف بالشهامة والجدعنة وذوبان الفوارق الطبقية والمذهبية فى النسيج الوطنى الواحد، فالمسلم والمسيحى يدا بيد، ودون تكلف أو بقصد عمدى تجد أهل الحارة جميعا منخرطون فى يوميات رمضان بشكل سلسل تعلو روحهم الطيبة فوق كل منغصات الحياة المصرية من ارتفاع الأسعار الجنونى بشكل غير متوقع ولا منطقى فى ظل استغلال وجشع التجار تحت شعار " أصل الدولار غلى " ، لتبقى المشاعر الدافئة حاجزا منيعا لعدم انقطاع عادة موائد الرحمن ، حتى فى ظل الفقر والحاجة ، وحتى الأسر التى تجتمع معًا اسمًا، لكن كل فرد يُمسك بهاتفه المحمول ويكتفى بالنظر إلى شاشته ، وكذلك قصص الحب التى تنشأ على الفيس بوك والواتس وما شابه ، ليدلل لنا كل ذلك على صدقية العمل وواقعيته ، ومن فرط اهتمام صُنّاع المسلسل بعرض التفاصيل، فلم يفقد كونه دراما تشويقية تُثير الفضول للدرجة التى تجعلنا ننتظر الحلقة التالية على أحر من الجَمر، ليبدو العمل بالنهاية كما لو كان يومًا واحدًا طويلًا لا ينتهي، ما يجعلنا ننظر إلى مسلسل "رمضان كريم" على أنه أكثر المسلسلًات واقعيًة برمضان 2017 ، كما أنه أيضا يجعله ثرى جدًا إنسانيًا بكل ما به من حكايات تعكس صورا حقيقية من حياتنا ومجتمعاتنا .
أما الأجمل فى هذا المسلسل فقد ظهر لنا فى بطولة جماعية ومشتركة ، وكيف تتقاطع حيوات الجميع مع بعضهم البعض ، وبالرغم من أنّ أحداث العمل تدور فى حارة ، ما يجعل البعض قد يظنون أنّهم لن ينتموا إلى هذا العمل، إلّا أنّ المسلسل نجح فى أن يحجز مقعدًا مُبكرًا فى الأعمال التى ينوى المشاهدون متابعتها طوال شهر رمضان، فيُراهنون عليها - وهو ماحدث بالفعل - كما بدا لنا بأداء عذب لسيد رجب بدور "رمضان" ، وسلوى عثمان بدور زوجته "سعاد" ، و روبى بدور "سناء"، وشريف سلامة بدور "يوسف"، والقدير محمود الجندى بدور "كريم"، وسلوى محمد على بدور "أم يوسف" ، وصبرى فواز بدور "خميس"، وريهام عبد الغفور بدور "رضا"، وسهر الصايغ بدور "صباح" وأحمد صيام بدور "ماهر"، ومحمد محمود بدور "الحناوي" وشيرين الطحان بدور زوجته "هند" ، محمد لطفى بدور "سامي" ، ونجلاء بدر بدور زوجته "زيزي"، وبهاء ثروت بدور" محسن"، وعمرو عبد العزيز بدور شقيقه "جابر" وهم جميعا قد برعوا فى أدوارهم بهذا العمل فقاموا بالتمثيل بأسلوب السهل الممتنع، وكأنهم يتبعون "قسطنطين ستانسلافسكي" أبو الأداء التمثيلى الحديث, والذى تعتمد نظريته فى التمثيل على فكرة أن الممثل الناجح يقوم بعمل الفعل المطلوب منه بشكل تلقائي, ولا يتظاهر بأنه يقوم بعمله، أوبمعنى آخر فإن الممثل الجيد يتصرف على نحو غريزى أثناء الأداء, كما لو أنه يقوم به للمرة الأولي، فأية إيماءة يجب أن تكون صادرة عن إحساس حقيقى لتبدو تلقائية، إلا أن الشيء الحقيقى الذى قصده "ستانسلافسكي" ونفذه كل هؤلاء هو مشاعر الممثل وذكرياته وقدراته الإبداعية , فالحوار الذى يلقيه الممثل يتحول إلى ترجمة لمشاعر داخلية يحسها بالفعل، ويعطى هذا الفرصة للممثل من ناحية أخرى لبناء شخصية متكاملة , بدلاً من أن يقتصر دوره على مجرد الأداء العادى للحوار، بل كان ديدنهم دائما هو الانطلاق من المشاعر الداخلية الصادقة للشخصيات التى يجسدونها فى المسلسل .
وتبدو لى مفاجأة العمل الأولى على الصعيد التمثيلى تتلخص فى الممثل الشاب "كريم عفيفي" فى تجسيد شخصية "جمال"، فعلى الرغم من أنه أحد أفراد فرقة مسرح مصر، والذين أفسدوا الكوميديا المصرية على مدار الأعوام السابقة، إلا أنه نجح من خلال هذا العمل أن يفرض وجوده ويُثبت جدارته وحسه التمثيلى اللافت للانتباه، بلعبه دور الشاب المتزوج العويل، والذى يعتمد على والده فى مصاريفه وحياته، ويعيش فى أغلب الأوقات من خلال عمل مصالح حتى على أقرب المقربين له، لكنه قدم الدور بخفة دم تجعل المتفرج لا يعرف كيف يكرهه، بحيث يبدو لك من نوعية الممثلين الذى يحكمون السيطرة على عواطفهم بحكم معرفتهم بالخصال النفسية والجسمانية والاجتماعية المتأصلة لدى الشخصية، ومن ثم استطاع "عفيفي" أن يعرف كيف يتغلب الممثل على المبالغة فى العواطف كأن يصفع وجهه بيديه, فى مشاهد الحزن و يضحك فى مشاهد الفرح, ما جعله يبدو طبيعيا فى ظل أجواء كثيرة يجرى فيها التمثيل بصورة حقيقية , تجعله ممثلا يشعر أنه فى قلب الواقع .
يبقى لى فى النهاية ضرورة الإشادة بـ "أحمد عبد الله" ككاتب سيناريو على درجة عالية من الحساسية والتعامل بصدق مع وقائع وقصص الحارة المصرية على نحو يمكن أن يعيد لها الاعتبار، بإنتاج "السبكي" الذى تحمل مشاق كبيرة لخروج "رمضان كريم" على هذا النحو الجيد الذى يعيد الاعتبار للحارة المصرية، وفوق كل هؤلاء لابد من الإشادة بـ "سامح عبد العزيز" فى إخراجه المتميز بهذا القدر من الرشاقة ، على جناح سحر الكاميرا التى تغوص بأدق التفاصيل داخل الحارة المصرية، ليستخرج منها كنوزها الحقيقية من براثن الفوضى التى أصابتها، ويكسبها بريقا آخاذ يسرد سحرا وجمالا مستمدا من وجوه وأماكن ، بحسن تصرفه وامتلاكه القيادة السليمة فى التواصل مع العاملين بالمسلسل, والقدرة على استخراج قدراتهم الإبداعية, وتشجيعهم على بذل أقصى مجهود، كما أنه حافظ على تقطيع اللقطات بشكل يتناسب مع تقطيع جمل الحوار ، كما اتفق عليها مع الممثلين، فضلا عن جهده الملحوظ فى بناء جسر ثقة بينه وبين الممثل , لتشجيعه على الأداء المطلوب، وفرض سيطرته على موقع التصوير التى كتبت شهادة نجاح هذا المسلسل .