ذات يوم كتب الأديب الشاعر "جُبران خليل جُبران" فى إحدى رسائله: "كل ما أعلمه هو أننى قد وضعت فى ذٰلك الرسم ما وضعه الله فى نفسي: وهٰذا كل ما يستطيع أن يفعله الإنسان "لقد أدرك "جبران" أن أعمق ما فى الإنسان، وأفضل ما يمكن أن يقدمه للآخرين بل الإنسانية بأسرها: أن يقدم فى كل عمل يؤديه ما وضعه الله فى نفسه وأعماقه من الخير والمواهب والإنسانية ! لقد تحدث كثيرون عن الجمال، فقيل: "الجمال لا يكون بامتلاك وجه جميل، بل امتلاك عقل جميل، قلب جميل، روح جميلة، وأن أسمى أنواع الجمال، لا ذاك الذى يُفتننا على الفور ، بل الذى يتسلل إلينا ببطء، فنحمله معنا ونحن لا نكاد نشعر به!".
إن الجمال الحقيقى يفرض نفسه على النفس الإنسانية ويجذب إليها الآخرين، فمن من البشر لا يأسره الخير ولا تؤثِّر فيه المشاعر الجميلة الصادقة النابعة من قلب يسكنه الله، ولا تَبهَره تلك الأعمال الرائعة المتولدة من مواهب الله للبشر ؟ أيضًا الجمال الحقيقى لا يشيخ، بل هو دائم التجدد فى النفس حتى إن رحلت عن عالمنا أو ابتعدت قليلاً فإنها تترك آثارًا لا تُمحى، إلا أنه على الإنسان أن يبحث عن أسرار الجمال التى وهبها الله له داخل نفسه وأعماقه، وأن ينميها ويصقلها ليقدمها للبشر وهٰذا أعمق ما يمكن أن يقدمه.
وبينما الإنسان يقدم أفضل ما لديه، هو يتمتع أيضًا بذٰلك الجمال! أتذكر تلك المعلمة التى استطاعت أن تقدم المشاعر الطيبة للطفل اليتيم "تيدي" فتمكن من عُبور مأساته، وصار أحد أعاظم الأطباء، وظل متذكرًا معلمته طوال حياته، وترتسم فى أفكارى قصة تلك الفتاة التى قدمت كوبًا من اللبن لصبى جائع دون مقابل فأثرت فيه إيجابيًّا، وزاد إيمانه بالله، وسعى جاهدًا ليشق طريقًا فى الحياة، صائرًا طبيبًا ناجحًا فى علاج الأمراض النادرة !! أيضًا أتذكر ذٰلك الإيمان العميق الذى تعلمته "هيلين كيلر" فتغلبت على إعاقاتها، وقدمت أجمل ما فيها من فكر فى مؤلفات وصلت إلى ثمانية عشَر كتابًا، تُرجمت إلى خمسين لغة، إضافة إلى إلقائها عديدًا من المحاضرات التى فتحت أبواب الأمل والحياة للآخرين!!! وأتذكر تلك الشخصية التى أثَّرت وأثْرت فى العالم بأسره فصار يوم ميلاده ـ الثانى من أكتوبر ـ احتفالاً عالميًّا بـ"اليوم الدُّولى للأعنف": إنه "ألمهاتما غاندي"، الذى أسَر شعب الهند بجمال روحه أمثلة كثيرة لأشخاص لم يصبح كثير منهم من مشاهير العالم، لٰكنهم ملأوا حياة كل من عرفهم وقرأ عنهم بالأمل والسعادة والجمال.
إنها ليست دعوة كى يُهمل الإنسان فى مظهره، إنما أن يكون اهتمامنا الأول بأعماقنا الداخلية: تلك الأعماق التى وضع فيها الله أسرار جمال كل نفس، فتقدِّم ما بها من خير وجمال كومضاتٍ تنير ظلمة ليل الطريق فى الحياة .