الإنذار الأعنف من ألف عملية إرهابية
لماذا يقدم رجل فى ريعان شبابه على قتل زوجته وابنتيه بقلب قاس وعين لا تطرف؟ ما الذى يحول الإنسان إلى وحش يغضب إلى حد الجنون ويقتل دون تمييز، ويدمر أقرب الأقربين منه؟ سائق شاب فى مطلع الثلاثينيات من عمره، يعيش ويعمل فى منطقة البساتين بالقاهرة، ولديه أسرة جميلة، زوجته حسنة السيرة ومشهود لها بتحمل ظروفه المادية المرتبكة، وابنتاه زهرتان فى الخامسة والثالثة من العمر، ما زالتا تتلعثمان فى نطق الحروف، ويبتسمان فتضحك الدنيا وتزول الهموم، فلماذا وتحت أى ضغوط يقدم على قتلهن؟ ما الذى يدفعه إلى هذا الانتحار الجماعى؟ ما الذى يجعل اليأس خياره ويقينه، ويجعل الموت غايته؟
لا يمكن القول إن هذا الحادث البشع والمؤلم فردى ناتج عن حالة جنون مؤقت أو حتى دائم، أصيب به الأب القاتل الذى لم يستطع أن يتحمل ضغوط الحياة، فانكسر مثل لوح زجاجى إلى شظايا قاتلة تدمر من حوله، ولا يمكن الاطمئنان إلى أن المجتمع محصن من تلك الجرائم العنيفة والشاذة، كما لا يمكننا الركون إلى أن رصيد الصبر لدى المطحونين والفقراء فى مجتمعنا، يمكن أن يحميهم من مظاهر السفه والاستفزاز البادية أمامنا كل لحظة.
لا، هذا الحادث المرعب يتكرر بصور مختلفة، وأظنه جرس إنذار أقوى تأثيرا ودلالة من ألف حادث إرهابى عنيف، يسقط فيه الضحايا الأبرياء، لأن الأحداث الإرهابية العنيفة مهما استمرت وتتابعت، تقوى مناعة المجتمع، وتؤكد للمواطنين الطبيعة الشريرة والوحشية للإرهاب، وتعزز قيمة المقاومة لكل مظاهر التطرف، أما حادث سائق البساتين وأشباهه، فدلالة على انتشار اليأس فى قطاعات بالمجتمع، وانتشار اليأس معناه التحلل والتفكك والموت والتدمير الذاتى وأشكال العنف غير المتوقعة.
نعم، هناك جهود ملموسة لدعم الفقراء والمعوزين فى المجتمع، ولكن هل هى كافية؟ نعم هناك جهود لحل مشكلات البطالة، وتوفير فرص عمل جديدة، لكن هل تصل تلك الفرص للقطاعات المطحونة؟ نعم هناك جهود لمحاسبة الفاسدين، واستعادة حقوق الدولة المنهوبة خلال سنوات طويلة، وآخر تلك الجهود تشكيل لجنة برئاسة إبراهيم محلب، رئيس الوزراء السابق، لاستعادة أراضى الدولة المسروقة، لكن هذه الجهود متباطئة للأسف الشديد، فعلى سبيل المثال يمكن استعادة عشرات المليارات من الجنيهات من مخالفات الطرق الصحراوية الثلاثة، الإسكندرية والسويس والإسماعيلية، كم من هذه الأراضى تم تخصيصها للزراعة ثم تحول إلى منتجعات وتجمعات إسكانية فاخرة دون سداد حقوق الدولة التى تواجه وحدها الانفجار البطىء للمناطق العشوائية فى قلب القاهرة وحولها، ومن بينها منطقة البساتين التى يسكنها الأب القاتل. الحيتان والنهابون لا يعرفون معنى المسؤولية الاجتماعية، ولا يحترمون القانون والحقوق، ويعرقلون عملية استعادة الدولة لحقوقها بالممارسات الفاسدة والمفسدة وألاعيب المحامين أمام القضاء، ويتصورون أنهم عندما يرتفعون بأسوار التجمعات الإسكانية المخالفة ويضعون على بواباتها موظفى الأمن، يستطيعون حماية أنفسهم من إجراءات الدولة لاستعادة حقوقها، ومن غضب الفقراء والمعوزين إذا انفجر لا قدر الله.
حتى الآن تتعامل أجهزة الدولة مع ناهبيها بتهذيب شديد لا يتناسب مع طبيعة جرمهم وحجم ما نهبوه، وتتعامل مع بركان العشوائيات وظواهرها المرضية الخطيرة ببرود لا يتناسب مع طبيعة النار الاجتماعية المشتعلة فى قطاعات الفقراء والعاطلين، ولا أدرى هل تراهن أجهزة الدولة على أن تهذيبها المفرط سيجبر الناهبين واللصوص على رد ما سرقوه؟ وهل تراهن على أن نيران الفقراء والمعوزين ستظل تحرق قلوبهم هم فقط مثل حادث الأب قاتل أسرته فى البساتين؟ فى الحالتين، أجهزة الدولة مخطئة، فكيف تفرط فى عشرات المليارات بل فى مئات المليارات من الجنيهات مخالفات واضحة لأفراد معدودين، بينما يمكنها الضرب على أيديهم والحجز على أصولهم حتى يعيدوا ما نهبوه صاغرين، كما أن التزامها تجاه الفقراء والمعوزين يدفعها للإسراع بضخ المزيد من الاعتمادات لخلق مجتمعات جديدة وفرص عمل وحياة أفضل لهؤلاء المحرومين منها والمستسلمين لجحيم اليأس.