التقيته صدفة فى معرض الكتاب منذ سنوات، وقعت عينى على كتاب من القطع الكبير كُتب عليه بخط زخرفى -يحيى الطاهر عبد الله.. الأعمال الكاملة- توقفت أمامه أتأمل اسمه الذى يتصدر غلاف الكتاب، أى إنسان يحمل اسم كهذا !.. إن اسمه تمجيدا فى حد ذاته، يشبه هتافنا اليومى فى طابور مدرستنا الصغيرة –تحيا جمهورية مصر العربية- ولكنه تحول هنا إلى يحيا.. الطاهر.. عبدالله، فكأنما "يحيى" و"الطاهر" هتافا جماهيريا يُدوى قبل عبد الله.
نظرت فى محتويات الكتاب كعادتى، فوجدت بينها "الطوق والإسورة" فقررت شرائه -حبا لشريهان-كنت قد شاهدت فيلمها الذى يحمل نفس العنوان، فتحمست لقراءة الرواية.
بدأت قراءة الكتاب من المنتصف تقريبا حيث رواية "الطوق والأسورة"، ثم عدت لبدايته مع مجموعة "يحيى" القصصية الأولى "ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقال" أنهيت أول قصة "جبل الشاى الأخضر"، بعدها اصطدمت بقصة "الكابوس الأسود" وتوقفت عندها. ولم أعد ثانية، كان أسلوب "يحيى" أصعب من أن أفهمه وقتها.
قبل بضعة أسابيع تجددت العلاقة بيننا بعد نصيحة أستاذى الكاتب الصحفى سعيد الشحات بقراءة أعمال يحيى الطاهر عبد الله، فقلت له إن أعماله الكاملة ترقد فى مكتبتى منذ سنوات لم أقرأ منها إلا الطوق والإسورة، فحكى لى أستاذ سعيد عن ما تعرض له "يحيى" من انتقاد البعض لقصة جبل الشاى الأخضر لأن الشاى لا يُزرع فى مصر، فتذكرت قراءتى الأولى لتلك القصة، وقتها لم أشُك فى "يحيى" بل شككت فى كتاب الجغرافيا الذى لم يذكر الشاى ضمن المحاصيل التى تُزرع فى مصر، وقلت لنفسى ربما يُزرع الشاى فى مكان ناءٍ بالصعيد عرفه "يحيى" ولم تعرفه وزارة التربية والتعليم حتى الأن فتذكره فى مناهجها.
كان يحيى الطاهر عبد الله أكثر تعقيدا من أن يُفهم فى أول قراءة، حتى بعد مرور كل تلك السنوات، حتى أنى اتهمته –ظلما- بعد القراءة الأولى أن بعض من شهرته تعود إلى صداقته بالشاعرين الكبيرين أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودى، وصدمة أبناء جيله برحيله المفاجئ قبل أن يتم عامه الثامن والثلاثين، فانبرى كثير منهم يخلدون ذكراه، لكن تلك الانطباعات الخاطئة تلاشت بعد قراءة ثانية أكثر تأنيا، فوجدت نفسى وقد غرسنى "يحيى" بحنكة شديدة فى قلب عوالم المهمشين فى شمال مصر وجنوبها.
فى الجنوب حيث الكرنك مسقط رأس "يحيى" وقِبلة قلبه النابض دوما بحب الصعيد وأهله، والنبع الذى اغترف منه أجمل أعماله الأدبية، وفى الشمال حيث قاهرة الأعداء دائما والأبناء أحيانا، احتفى فيها يحيى الطاهر عبد الله بالمهمشين فى حوارى القاهرة، بصغار الموظفين والفقراء الباحثين عن فرصة للحياة .
ولد يحيى الطاهر عبد الله بقرية الكرنك بالأقصر عام 1938 . حصل على دبلوم الزراعة، وعين موظفا بوزارة الزراعة، بعدها قرر ترك قريته والانتقال إلى قنا ليتعرف على عبد الرحمن الأبنودى وأمل دنقل بعد أن ذات صيتهم بين أبناء الجنوب بأنشطتهم الثقافية وكتابة الشعر، ربما شعر "يحيى" أنهما سيكونا رفيقا دربه، وهو ما حدث بالفعل. سافر إلى قنا للتعرف عليهما، وذكر عبد الرحمن الأبنودى تفاصيل لقائه الأول بـ "يحيى" فى كتابه أيامى الحلوة قائلا:
"فجأة نزل إلى قنا شاب فى رُفع بوصة الذرة كأنه خيط حاد شد بالشمع ليستعصى على القطع عيناه حمراوان كأنه شرب لتوه برميل روم، سُبابة يمناه طويلة حتى لأقسم أنى لم أر أطول منها وأنها كانت مستعدة لتنغرس فى عين كل من يقول كلمة ضد الأستاذ (عباس محمود العقاد. (
دق الباب.. قالت له فاطنة قنديل عاوز أيه؟ قال: عاوز عبد رحمان سألته إنت مين.. قال: جوليله يحيى الطاهر عبد الله. فشدت فاطنة قنديل السقاطة ليدخل."
ودخل "يحيى" بيت الشيخ الأبنودى ضيفا لزيارة ابنه، لكنه ظل عامين يعيش بين أبناء الشيخ "الأبنودى" كواحدٍ منهم، وفسر عبد الرحمن سر اطمئنان "يحيى" للحياة فى بيت الشيخ الأبنودى قائلا :
"إنسان واحد - غيرى طبعا - تقبله بدون نقاش حتى صار يناديها يا أمه، بينما بعض من أولادها الحقيقيين كان يستفزهم دخوله إلى قلب حياتهم لدرجة الاستيلاء على أمهم. إنها بالطبع المرأة ذات القلب الرحب –فاطنة قنديل- فمنذ عرفت بأنه يتيم الأم والأب، وعرفت طرفا من قسوة الحياة فى بيت ليس فيه والداه، قررت أن تكون البديل عن والديه، وأن تهش يتمه وتهبه ما يشبه الجنسية الأبنودية."
فى نهاية 1962 قرر الأبنودى الانتقال إلى القاهرة، وبقى "يحيى" فى بيت الشيخ الأبنودى وسط أبنائه حتى عام 1964 ثم قرر اللحاق بـ"عبد الرحمن" فى القاهرة، وسكنا معا شقة فى حى بولاق، وهناك أتم "يحيى" كتابة مجموعته القصصية الأولى التى بدأ كتابتها بالقصة القصيرة "محبوب الشمس" عام 1961، وتوالت بعدها أعماله الأدبية، "الدف والصندوق"، "أنا وهى وزهور العالم"، "حكايات للأمير النائم"، "الطوق والإسورة" "الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة"، "تصاوير من التراب والماس"، وآخرها مجموعة "الرقصة المباحة" التى نشرت بعد وفاته.
وفى 13 أبريل 1981 نعى الكاتب الكبير يوسف إدريس الأديب يحيى الطاهر عبد الله فى مقاله المنشور بالأهرام:
«أصيب ومات يحيى الطاهر عبد الله ولم يبلغ من العمر الثمانية والثلاثين عاماً . كتب مجموعات من عيون القصة العربية الحديثة. وتزوج وخلف بنتين، وبالكاد بدأ يتنفس الصعداء، وإذا بالقدر، ودوناً عن ركاب عربة انقلبت وكان بها ثمانية غيره - متعهم الله بالصحة وأطال فى أعمارهم – اختطفه، فعلاً وكما تنطق حكمة الشعب المصرى أحياناً بالحقيقة .. كان ابن موت. الموت .. ذلك القضاء الحق .
مات يحيى .. هكذا نعاه لى الأبنودى فى منتصف الليل، ووجدت نفسى كالأطفال أبكى عجزا .
.. وبالكاد بدأ يتنفس الصعداء، وإذا بالقدر اختطفه .. بتلك الكلمات القليلة لخص "إدريس" الكثير من المعانى، فما أن قرأت أعمال "يحيى" خاصة الأخيرة حتى تساءلت ماذا لو أمهله القدر قليلا ؟ إلى أين كان سيصل بموهبته الأدبية وأسلوبه الخاص؟ شهد كثيرون أنه كان شخصا مختلفا ومميزا على الجانب الإنسانى، وربما هذا ما منح نصوصه الأدبية مذاقا خاصا. رحيل يحيى الطاهر عبد الله المفاجئ جعل من أصدقائه مصدرا هاما للتعرف عليه، ومن أهم علاقات الصداقة فى حياة "يحيى" علاقته بعبد الرحمن الأبنودى وأمل دنقل فقد شكل ذلك "الثلاثى" صوت الأدب القادم من أقصى الجنوب باحثا عن اعتراف الوسط الثقافى بالعاصمة فى أوائل الستينات.
وبينما كانت صداقة "يحيى" بالأبنودى هادئة نوعا ما، كانت صداقة أمل ويحيى محفوفة دائما بالمشاحنات بداية من ثورة "أمل" على "يحيى" عندما قرر الأخير الاستقالة من وظيفته بالأقصر والتفرغ للقراءة دون أن يكون لديه مصدر آخر للدخل، ثم ثورات "أمل" المتعاقبة ضد دفاع "يحيى" المستميت عن "العقاد" فى بداية صداقتهم.
حتى بعد انتقالهم للقاهرة، وبعد أن قطعا طريقا طويلا فى مشوارهما الأدبى ظلت علاقة الصداقة بينهما دائما فى اشتباك متواصل كما وصفتها –عبلة الروينى زوجة أمل دنقل- فى كتابها "سيرة أمل دنقل- الجنوبى" قائلة عن "يحيى":
"أنه كان واحدا من أقرب الأصدقاء لقلب أمل.. رغم ما احتوته علاقتهما من اشتباك متواصل يتخللها فترات هدنة قصيرة للغاية."
وبعد وفاة يحيى وصفت "الروينى" وقع الخبر على "أمل" قائلة:
"لم يشترك فى كل مراسم غيابه، لم يسأل عن الأسباب، لم يكلم فى تفصيلات الموت، لم يثرثر –بشكل عاطفى- حول يحيى كما كنا نفعل.
(إن يحيى خاص بى وحدى) قالها وبكى.. كانت هى المرة الأولى التى أرى فيها دموع أمل."
بعدها رثا "أمل" صديقه الراحل فى واحدة من أجمل قصائده "الجنوبى"
ليت أسماء تعرف أن أباها صعد
لم يمُتْ
هل يموت الذى كان يحيا
كأن الحياة أبد
وكأن الشراب نفد
وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد
عاش منتصباً، بينما
ينحنى القلب يبحث عما فقد
أما عبد الرحمن الأبنودى الذى عاش "يحيى" فى كنف أبيه الشيخ الأبنودى ووسط أبنائه كواحد منهم، وظل رعاية أمه فاطنة قنديل، رثا "يحيى" بقصيدة "عدودة تحت نعش يحيى الطاهر عبدالله" قائلا:
يا يحيى يا عجبان يا فصيح.. يا رقصة يا زغروتة
إتمكن الموت من الريح.. وفرغت الحدوتة
كنا شقايق على البُعد.. وع القُرب شأن الشقايق
أنا كنت راسم على بُعد.. وخانتنى فيك الدقايق
حرة كطير البرارى.. أسماء وعاش المسمى
دلوقت بتنام جوارى.. فى فرشتك يا ابن عمى
أبويا مات السنة دى.. وأمى بتموت وتحيا
ما مد لى الموت أيادى.. إلا فيك إنت يا يحيى
آخر حروف الأبجدية.. أول حروف اسم يحيى
للموت كمان عبقرية.. تموت لو الاسم يحيى