قبيل أيام من تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على مشروع قانون يدين الولايات المتحدة الأمريكية حول قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بشأن القدس، والذى اعتبر فيه أن القدس الفلسطينية العربية هى عاصمة دولة الكيان الصهيونى، واعتزامه نقل سفارة بلاده من "تل أبيب" إلى "القدس"، وقبل التصويت بيوم واحد خرج "ترامب" وهدد كل من يصوت فى الأمم المتحدة ضد أمريكا، وكانت الدول العربية والإسلامية بالكامل ومنها مصر من المصوتين ضد القرار الأمريكى.
وفى هذا الإطار بدأت أمريكا تلعب على وتر الطائفية والنقطة الحساسة فى مصر وهى مسألة الأقباط، حيث ناقش الكونجرس الأمريكى قرارا يدين مصر بشأن مزاعم أمريكية تقول إن التعصب الدينى والطائفى والهجمات الإرهابية زادت ضد الأقباط فى مصر، وتمت إحالة القانون إلى لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس، والقانون يقضى بربط المعونة الأمريكية لمصر بإنهاء ما أسماه التهميش المتعمد للمسيحيين فى مصر والعمل على المساواة بينهم وبين طوائف الشعب، وهو الأمر الذى أثار غضباً كبيراً فى مصر، حتى أن سياسيين قالوا أنه ذريعة للتدخل الأمريكى فى الشأن المصرى بشكل مباشر، وكأنه يبدو نوعا من العقاب لها على تصويتها ضد القرار الأمريكى بشأن القدس، وفى أول رد مصرى على قانون الكونجرس، قالت النائبة البرلمانية "مارجريت عازر" أن الأقباط فى مصر يتمتعون بكامل حقوقهم وأن الحوادث الإرهابية موجهة ضد الشعب المصرى بالكامل وليس ضد الأقباط فقط، والدليل على ذلك ما حدث فى مسجد الروضة بالعريش واستهداف المسلمين الآمنين أثناء صلاة الجمعة، أما رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب فقال أن البرلمان سيعقد جلسة طارئة بهذا الشأن وسنخرج بالرد المناسب.
يبدو لى أن لعبة أمريكا الجديدة ليس القدس بل الهدف البعيد هو السعى نحو تفتيت المصريين، وذلك بدق إسفين بين أبناء الشعب المصرى لحدوث نوع من الانقسام قبيل الانتخابات الرئاسية القادمة، وهو ما يذكرنى بنفس نهج الولايات المتحدة عبر سياسة التأليب التى تتبعها حتى على مستوى الطائفة الواحدة من المسلمين، فقد كتب الصحفى الأمريكى "جيمس تروب" فى ديسمبر 2014 عن الإسكندرية قائلا: إنها منارة الشرق والقلب النابض للعالم العربى، لكن هذه المنارة قد انطفأت بعد تحولها إلى إحدى القواعد الرئيسية للسلفيين المصريين، الحركة الإسلامية الأكثر تشددا خلال السنوات الماضية، وتبدو الإسكندرية وفقا لما ذكره فى تحقيق مطول على مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، والذى يحكى من خلاله "تروب" أياما قضاها فى مدينة الإسكندرية فى سبتمبر 2014، ولقائه بالداعية والقيادى فى الدعوة السلفية "أشرف جمعة السيد" تلك الحركة التى تنسق بين رجال الدين والحياة التعليمية لملايين المحافظين المتشددين فى مصر.
ولأن الأمر كان يبدو فيه شبهة تعمد خلط الأوراق، يقول "تروب" خلال هذا اللقاء، إنه قد وجه سؤالا إلى قيادى الدعوة السلفية حول طبيعة عمل ووجود السلفية فى مصر، لكن سائقه "عبدالعلي" هو من بادر بالرد: "لأننا سلفيون، يمكننا استجواب الأئمة، نحن لا نشبه جماعة الإخوان المسلمين التى تتبع بشكل أعمى قائدها، فالحاكم علينا هو القرآن الكريم والسنة النبوية"، ويواظب عبدالعلى وزوجته على الحضور إلى مؤسسة الفرقان، وهى أكاديمية دعوية دينية، ولا يتأخر فى الرد على الأسئلة حول جماعته: "نحن نتخذ مقاربة علمية لتطبيق الدين فى مشكلات الحياة"، متابعا: "حينما تدرس الفلسفة فإنك تقرأ أفلاطون وأرسطو، وحينما تدرس الأدب الإنجليزى فإنك لن تقرأ كتب حديثة، بل ستلجأ إلى الكلاسيكيات.. ينبغى أن تعود إلى الأصل، وهو ما ينطبق علينا ، فالجيل الأول للرسول وأتباعه أهم مصدر للحقيقة، والجيل الثانى يأتى فى المرتبة الثانية من حيث الأهمية، وهكذا، وبعيدا عن هذه الأجيال، فإن التاريخ ملىء بالأخطاء".
ولقد أوضح تروب بخبث عبر سطوره الملغمة - آنذاك -، أن النظرة السلفية تكشف أن الله جعل الحقيقة فى النصف الأول من القرن السابع، ثم توقفت بعدها، والأمر متروك للإنسان على مدى الأجيال أن يطبق هذه الحقيقة الموروثة فى حياته اليومية، وتتبع الصحفى الأمريكى تاريخ الدعوة السلفية منذ ثورة يناير واحتفالها مع باقى المصريين بالإطاحة بحكم مبارك، ثم ذهاب أعضائها إلى صناديق الاقتراع للتصويت للإسلاميين، ثم ترحيبهم بعد ذلك بالسلطة التى أطاحت بهؤلاء الإسلاميين فى 3 يوليو 2013، ثم أخيرا تصويتهم للمشير السيسى الذى أجهز على الإخوان، موضحا أن مصر عادت من حيث بدأت، فالقضاء فى عهد النظام الحالى قد برأ الديكتاتور مبارك فى قضية قتل مئات المتظاهرين.
ويدخل تروب فى عمق الفتنة المفتعلة بأصابع أمريكية تحاول العبث بمصر عبر التلويح بالانحياز للسلفيين، أن التغيرات السياسية أدت إلى زعزعة الاستقرار فى المجتمع المصري، وظهور تيارات واختفاء أخرى، لكن فى اليوم الذى تم سحق الإخوان المسلمين فيه، احتل السلفيون مكانة هذه الجماعة، محاولين الحشد سياسيا ليكونوا الحركة الإسلامية البديلة، موضحا - على طريقة دس السم فى العسل - أن منطقة شمال إفريقيا شكلت لقاء حضاريا بين المسلمين والمسيحيين واليهود الذين لم يتقاسموا المعيشة معا فقط بل الثقافة واللغة أيضا، لكن هذا المجتمع المتجانس قد اختفى فى الوقت الحالي، بما فى ذلك أحد الأماكن التى كانت مثالا عالميا للحضارة، وهى مدينة الإسكندرية، ولإضفاء نوعا من المصداقية المزعومة على الطريقة الأمريكية ينقل تروب عن مدير مكتب قناة العربية فى واشنطن "هشام ملحم" والذى تحدث عن انهيار الثقافة العربية قائلا: "إحدى النتائج الفرعية لسلب الأمن القومى للدول، والنزعة الإسلامية الصاعدة، هو الموت البطيء للكوزموبالتانية، والانفتاحية التى ميزت مدن الشرق الكبرى، مثل الإسكندرية وبيروت والقاهرة ودمشق، وكانت الإسكندرية مركزا للتعلم ولقاء العديد من الثقافات، لكنها تحولت اليوم إلى معقل الإسلام السياسي".
وبحسب تصورات تروب الخبيثة التى أراد بها قبل أربعة سنوات أن يقدم شهادة حق يراد بها باطلا، فرغم أن السلفيين لديهم تقوى صارمة وعادة قديمة فى العزلة عن الحياة العامة، إلا أنهم شاركوا فى الحياة السياسية بقوة بعد ثورة 25 يناير 2011، ففى حين انضم عدد من الأحزاب السلفية الصغيرة إلى جماعة الإخوان المسلمين ، أو تعاطفت مع المعارضة الديمقراطية ، إلا أن حزب النور السلفى فى الإسكندرية حصد نسبة ساحقة من الأصوات خلال الانتخابات البرلمانية فى 2012، ويقدم الآن دعما غير مشروط لنظام عبدالفتاح السيسي ، الرئيس القوى الجديد، فهنا ظاهرة غريبة يلخصها الكاتب فى عبارته: "الإسلام السياسى يلتقى كثيرا مع الاستبداد العلماني"، وذهب تروب بخياله المريض والأعوج - وقتها - ليقدم تبريرا غير منطقى فى الترويج لسلفى مصر لغرض فى نفس يعقوب قائلا: فى أى مكان آخر فى العالم العربي، نجد أن السلفيين يتصدرون خطوط الجهاد العنيف، ولكن فى مصر الوضع مختلف، فمعظم السلفيين يشاركون الشعب فى الاشمئزاز من الفوضى والعنف ، ولا يريدون تغيير الوضع ، فلقد رأوا ما حدث للإخوان المسلمين، مستندا فى ذلك بعبارة لـ "باسم الزرقة" أحد القادة السلفيين فى مصر يقول فيها : "الشارع فقط من أجل التعبير عن رأي، لكن المشاركة السياسية ينبغى أن تكون عبر المؤسسات السياسية".
ورغم الموقف الانصياعى للسلفيين، هكذا يبدو - بحسب تروب - إلا أن المعارضة العلمانية تعتبر حزب النور أكثر تهديدا للهوية المصرية من الإخوان المسلمين، فقد أكد محمود بدر، أحد مؤسسى حركة تمرد، أن "أيدولوجية الحزب أكثر تطرفا من تلك التى تتبناها الجماعة"، ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية 2015، يسعى تحالف الأحزاب العلمانية لحرمان حزب النور من المشاركة، خصوصا أن الدستور ينص على حظر إقامة أحزاب سياسية ذات خلفية دينية، ومن المقرر سماع قضية حرمان الحزب السلفى من الحياة السياسية فى يناير 2016، وزعم "تروب" أن النظام الجديد فى مصر أعطى دعما لحزب النور، لاسيما أن الحزب قد أثبت أن لا غنى عنه فى الحياة السياسية الجديدة، ويكتب ملحم: "ربما يكون هذا مصدرا للخطر، إنه نوع من التقارب بين دولة الأمن القومى مع السلفية فى نظام حديث، والذى من الممكن أن يجعل الكوزموليتانية التى كانت تحظى بها الإسكندرية زمنا قد ولى".
ويحاول "تروب" الضغط على العصب العارى فى السياسة المصرى فى ذلك الوقت، حين ذهب فى تحليله الذى لا يخلو من شبهة دس أنف الولايات المتحدة فى الشأن المصرى الداخلى باستغلال ثغرات يمكن الدخول من خلالها فى صلب اللعبة القذرة بالترويج مرة أخرى للسلفيين كطرف يمكن استقطابه فى المستقبل وتهيئة الظروف المناسبة للعب دور أكبر على نطاق الجغرافية السياسية فى البلاد قائلا: على عكس الإخوان المسلمين، فقد تجنب السلفيون النشاط السياسى خلال الانفتاح المتواضع الذى قدمه مبارك فى الأعوام الأخيرة من حكمه، بل إنهم فضلوا عدم المشاركة منذ البداية فى تظاهرات 2011 بحجة الخوف من الفوضى، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فحينما أبدى الإخوان استعدادهم لمشاركة العلمانيين فى المطالبة بالحقوق السياسية، فضل السلفيون الصمت، لأنهم يعتبرون العلمانية كفرا، لكن خوفهم بعد ذلك على الهوية الدينية لمصر جعلهم يلجأون إلى لعب دور سياسي، وخرجت بالفعل أول تظاهرة للسلفيين بعد أسبوعين من اندلاع احتجاجات 25 يناير، حيث دعوا لمظاهرة حاشدة فى الإسكندرية حذروا فيها من المساس بالمادة الثانية من الدستور، والتى تنص على أن الشريعة هى مصدر التشريع.
هى إذن لعبة السياسة القذرة التى تحاول أمريكا من خلالها بين الحين والآخر العزف على أوتار لا تصنع سوى النشاز فى تأليب مشاعر المصريين تجاه القيادة السياسية قبيل الإعلان عن الانتخابات الرئاسية المزمع إقامتها فى 2018، تارة باستغلال ملف إحداث الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، وتارة أخرى بمغازلة السلفيين - كما يتم يخطط لهم الآن بشغل الفراغ لتيار الإسلام السياسي- لتصبح فى أيدى الولايات المتحدة دوما ورقة ضغط على النظام الذى تسبب لهم فى هزيمة منكرة فى يونيو 2013، عندما بعثر أوراق سيناريو التفتيت الذى اجتاح المنطقة، ونجح للأسف فى " العراق - سوريا - ليبيا - اليمن" ليواجهه الفشل على يد خير أجناد الأرض "الجيش المصري"، الذى مازال وسيظل يمثل تلك الصخرة الصلبة التى أعجزت كل مخططات أبناء العم سام فى مصر .. حماها المولى عز وجل من شر وسوء.