بالأمس قد بدأت الاحتفالات بالعيد المائة لميلاد الزعيم جمال عبدالناصر، والتى ستستمر طوال عام 2018، ليس على مستوى مصر والعالم العربى فحسب، ولكن على مستوى العالم كله، ونحن هنا لا نتحدث عن عبدالناصر الشخص، فهو قد انتقل إلى رحمة الله منذ ما يقرب من ثمانية وأربعين عامًا، أما نظام عبدالناصر فقد تمت تصفيته وإسقاطه منذ ما يسمى 15 يناير 1971، واستُبدل بنظامه نظام آخر نقيض له بعد حرب 1973، وصدور قانون الاستثمار 1974، وبداية الانفتاح السداح مداح، وتدشين الانبطاح لأمريكا التى قيل إنها تمتلك الـ 99 فى المائة من الأوراق، كما أننا لسنا ممن يسمون دراويش عبدالناصر، وإن كنا من أبناء عصره وعشنا زمانه، ومتمسكين بالمنهج الناصرى الذى هو فكر ورؤية لا تتقادم بالزمن، ولا تسقط بالمؤامرات، فالإنسان يموت وتبقى الفكرة وتعيش المبادئ، لذا نرى تلك الاحتفالات، وهذا الاهتمام المصرى والعربى والعالمى بهذه المناسبة.. نرى بقاء السيرة التى تذكر طوال الوقت بالفكر والموقف والمنهج.. نرى تلك اللحظات الفارقة فى حياة الشعوب، التى تُرفع فيها صورة الزعيم فى كل مكان، وهنا إذا تذكرنا عبدالناصر الشخص والسيرة نقول إنه شخص يخطئ ويصيب، فكانت له إنجازات وأيضًا إخفاقات، ولكن تظل السيرة ويبقى السلوك قدوة ومثلًا يُحتذى به، فكان وطنيًا مخلصًا لشعبه، مؤمنًا بمبادئه، مناضلًا فى سبيل رفعة الوطن واستقلاله، فقد كان نبتًا من أرض هذا الوطن، عاش حياة الجماهير، وعانى كل معاناة المصريين، فلم ينفصل عن شعبه، ولم يتنصل من انتمائه الطبقى، لذلك ظل مخلصًا لهذا الشعب بعماله وفلاحيه وجنوده ومثقفيه ورأسماليته الوطنية وليست المستغلة، أزال الفوارق بين الطبقات، وحقق العدالة الاجتماعية، وأرسى مبادئ الاستقلال الوطنى، والتحرر من الاستعمار والتبعية، فكان نبراسًا لكل حركات التحرر الوطنى فى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، كان ملهمًا لكل أبطال التحرر والاستقلال.. كاسترو وجيفارا ومانديلا ونكروما وشافيز.. إلخ، وساعد حركات التحرر فى كل مكان كهدف ومعنى لفكرة الاستقلال، لذا أصبح زعيمًا تاريخيًا وبحق، وهذه الزعامة لم يصنعها أحد ولم يفرضها نظام، لكن إخلاص الرجل وعظمة المبادئ، ولذا كان من الطبيعى لرجل يحمل هذه الرؤية، ويناضل من أجل المجموع، ويأخذ بيد الأغلبية الفقيرة والمقهورة والمستذلة أن تكون أخلاقه إنسانية، وسلوكه قدوة، فلم يستطع أحد أن يرصد زلة شخصية أو انحرافًا ذاتيًا أو فسادًا أخلاقيًا.
عاش ومات مثل أى مواطن من الطبقة الوسطى فى ذلك الوقت، فدائمًا ما يحارب الزعماء، وما يثار الحقد حول أصحاب الكاريزما العابرة للأشخاص، ناهيك عن محاربة كل قوى التخلف والرجعية والاستعمار، ذلك لتناقض مصالحهم الذاتية وخططهم الاستراتيجية، ليس لمحاربة الشخص، فالشخص لا وجود له، ولكن الأهم أنه ما زال عبدالناصر يحارب حتى الآن كأنه مازال حيًا، فالحرب هنا هى لأفكاره ومبادئه التى مازالت صالحة ونافعة لمواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية، وهى تحديات وأهداف ومصالح استعمارية مازالت قائمة وستظل، خاصة فى المنطقة، وإن اختلفت الأشكال وتعددت الأساليب، فمواقف ومبادئ عبدالناصر قد التفت حولها الجماهير، أصحاب المصلحة الحقيقية فى العدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطنى، وامتلاك مصيرهم، والحصول على حريتهم السياسية والاقتصادية، فالحرية ذات وجوه كثيرة، وهنا بالطبع لا يوجد نظام سياسى يرضى عنه الجميع بالمطلق، لكن الفيصل هنا هل توجهات النظام- أى نظام- تصب فى صالح الأغلبية أم الأقلية؟.. هنا نقول إن نضال وجهاد ومواقف عبدالناصر كانت مع الأغلبية الجماهيرية وليس مع الأقلية، لذا من الطبيعى أن تنحاز إليه وتناصره الأغلبية المقهورة فى كل مكان.
قالوا ما قالوا، وسيظلون يقولون عن عبدالناصر، ولكن نقول إن الدليل الفيصل هو التفاف الجماهير حول الزعيم، فطالعوا وانظروا وتأملوا صور الزعيم مع الجماهير منذ كان يلبس الزى العسكرى حتى وفاته، شاهدوا ذلك الالتفاف وحب الجماهير غير المسبوق، ليس فى مصر ولكن فى كل مكان ذهب إليه الزعيم فى مصر وخارجها.. هو الزعيم الذى رُفع على الأعناق بسيارته، هو الزعيم الذى خرجت له الجماهير عند التنحى.. وهى ظاهرة لم تتكرر طوال التاريخ، أن تخرج الجماهير متمسكة بزعيم مهزوم، خرجت الجماهير تودعه عند وفاته فى جنازة لم يسبق لها مثيل فى التاريخ، هذا هو الحكم على أى رئيس أو زعيم أو نظام، فهو أحب الجماهير وأخلص لها، فأحبته الجماهير ووثقت فيه.
هنا نحتفل بالزعيم فى ميلاده المائة ليس «دروشة» أو تقديسًا، لكن نحتفل تأكيدًا لصدقه ولعظمة مبادئه ولانحيازه للجماهير المصرية والعربية.. الاحتفال يعنى أن نأخذ المثل، وأن نمتثل بالقدوة، وأن نتمسك بالمبادئ، وأن ننحاز للجماهير، وأن نسعى لعدالة اجتماعية حقيقية، وأن نحافظ على استقلال الوطن من أى تبعية مهما كان الثمن.. الاحتفال يعنى أن الشعوب لا تنسى زعماءها، وأن المبادئ لا تسقط، والمواقف لا تموت، والأفكار ستظل ملكًا للإنسانية كلها.. الاحتفال يعنى مزيدًا من حب الوطن والانتماء إليه، والتضحية فى سبيله بكل ما نملك حتى بالأرواح.
هنا لابد من أن نذكر كل المتاجرين بالناصرية أنهم يسيئون للتجربة، فالناصرية هى الوطنية والمصرية، ونكران الذات، والإخلاص للوطن وللجماهير، ولكن الصراع الفارغ والإساءة غير اللائقة والتفتت والتشرذم الموجود هو لا يمتّ لعبدالناصر بصلة، وبغيركم مازال عبدالناصر حيًا بمبادئه ونضاله لدى الشعب المصرى والعربى والعالمى، الذى سيحتفل بمئوية ميلاده طوال عام 2018... لمصر وشعبها وجيشها الافتخار بعبدالناصر.. مصر وقواتها المسلحة التى مازالت تؤدى دورها الوطنى.
عاشت مصر وشعبها العظيم.