انتهت أعمال مؤتمر الأزهر العالمى لنصرة القدس، الذى انعقد على أرض مصر الكنانة، برعاية كريمة من السيد رئيس الجمهورية، لكن آثاره والآمال المعقودة عليه لم ولن تنتهى بمشيئة الله تعالى، فضلًا عن الإشادات المحلية والإقليمية والدولية بالمؤتمر وتوصياته، التى تضمنها إعلان الأزهر لنصرة القدس.
واسمحوا لى هنا أن أعلق على بعض النقاط التى وردت فى مداخلات عدد من السادة المشاركين فى جلسات المؤتمر، وأصحح بعض الأخطاء التى لاحظتها خلال تناول الإعلام لأعماله.
أولًا: قرار ترامب ليس طامة كبرى حلت بالعرب والمسلمين، وقضية فلسطين برمتها، كما قال بعض المشاركين، إذ إنه قرار باطل ساقط، هو والعدم سواء، وإنما لحق الضرر من وجهة نظرى بأمريكا وبالكيان الصهيونى، وليس بالعرب والمسلمين وقضيتهم الأولى، فالواقع أن القدس محتلة قبل قرار ترامب، ولم ولن يتغير وضعها بالقرار، فما كانت مدينة القدس ميراثًا لبلفور ولا لترامب ورثاه عن أجدادهما، حتى يمنحاه بوعدين مشؤومين للصهاينة الغاصبين، وإنما كانت القدس وما زالت وستبقى عربيةً، عاصمةً أبديةً لدولة فلسطين، ولم يعد يخفى على أى متابع مدى الضرر الذى لحق بأمريكا جراء هذا القرار الجائر، ولعل الضرر الأكبر هو انكشاف وجهها القبيح الذى طالما توارى خلف ستار رعاية السلام، وحماية الحريات والديمقراطيات، والدفاع عن حقوق الإنسان-، والحيوان كذلك، وأنها صديقة للعرب، وحليفهم الاستراتيجى، فإذا بهذا الأرعن يكشف بجلاء عن وجهها الإمبريالى والأيديولوجى القبيح. كما أن هناك ضررًا عظيمًا لحق بالغاصب المحتل، فقد ثبت أن الصهاينة لا يزالون يكذبون ويخدعون العالم بما يسمى المفاوضات التى تُرك لها تحديد مصير القدس، حيث أعلنوا صراحة بل أصدروا قانونًا لا تخضع بموجبه القدس لأى مفاوضات، وهو ما يعنى بزعمهم أن شبرًا منها لن يعود لأصحابه، لكن هيهات هيهات، فالقدس ستحرر وستعود فلسطين، إن لم يكن على أيدينا، فعلى أيدى أبنائنا أو أحفادنا.
ويكفى أمريكا ونبتها السرطانى غير الشرعى ضررًا اليوم أن العالم- إلا بعض دويلات أعيانا البحث عن مواقعها على خريطة العالم تبعتهم فى جرمهم طوعًا أو كرهًا- يمقتهم ويراهم غاصبين كاذبين مخادعين، ويدعم الفلسطينيين فى سعيهم لاسترداد حقوقهم المسلوبة، ولا أدل على ذلك من الصفعة التى تلقاها القرار فى مجلس الأمن الدولى، والجمعية العامة للأمم المتحدة، ولولا استخدام أمريكا حق البلطجة المسمى بالفيتو فى مجلس الأمن، وتهديدها بقطع المعونات والمساعدات التى تقدمها لبعض الدول والهيئات، لكانت الصفعة أقوى وأشد، ولكن حسبنا مما حدث أن رأينا أكبر دولة فى العالم معزولة سياسيًّا منبوذة أيديولوجيًّا.
ثانيًا: ما يقال من أن هذا المؤتمر لا يعدو كونه تظاهرة كلامية لن تحرر القدس، أخشى أن يكون المراد منه تثبيط الهمم، وإطفاء جذوة القضية فى الأذهان حتى تنساها الأجيال العربية والمسلمة شيئًا فشيئًا.. صحيح أن هذا المؤتمر لن يحرر القدس، ولكنه سيترتب عليه أثر إيجابى كبير بمشيئة الله تعالى فى إحداث حراك فعال لدعم القضية فى المحافل الدولية، ولدى أحرار العالم، واستعادة الوعى المطلوب لدى النشء العربى والإسلامى بقضية فلسطين عامة والقدس خاصة، بل إن هذا المؤتمر قد حقق المرجو منه بفضل الله تعالى؛ فقد شحذ الهمم، وأحيا القضية فى الأذهان، ولا أدل على ذلك من هذه المشاركة الواسعة، وهذا الحضور الحاشد من مختلف قارات العالم بما يمثله من تنوع دينى وعلمى وثقافى وفكرى وسياسى وقانونى، ولا شك أن هؤلاء النخب سيتبنون القضية وسيدافعون عنها عبر الوسائل المختلفة فى بلدانهم، ويكفى إجماع ممثلى أتباع الديانات الإبراهيمية، اليهودية والمسيحية والإسلامية، على التبرؤ من الكيان الصهيونى، وإدانة جرائمه بحق البشر والمقدسات، خاصة ما صرح به أتباع الديانة اليهودية الذين شاركوا فى المؤتمر من أن هذا الكيان لا يمثل اليهودية، وأن ما يرتكبه من جرائم بعيدة كل البعد عن تعاليم اليهودية الصحيحة، وأن هؤلاء الصهاينة لا يصح تسميتهم باليهود ولا حتى بالإسرائيليين، هذا بالإضافة إلى مئات ملايين البشر الذين كانوا يترقبون المؤتمر حول العالم، وكذا للمتابعين لأعماله، فقد حظى المؤتمر بمتابعة واسعة من الشرق والغرب، تجاوزت نصف مليار عبر شبكات التواصل الاجتماعى، فى ظاهرة غير مسبوقة حتى فى متابعة أخبار أشرس الحروب، ولو لم يحقق المؤتمر أكثر من هذا لكفاه.
ثالثًا: لا أدرى لماذا لا يفتأ العرب والمسلمون يتحدثون عن أننا أمة سلام، وأن السلام خيارنا الاستراتيجى، بل خيارنا الأوحد الذى لا بديل لنا عنه!.. إننا أيها السادة أمة سلام مع مَن سالمنا، وينبغى أن نكون أمة حرب ضروس لا تبقى ولا تذر مع مَن عادانا وقاتلنا وتآمر علينا، والخلط بين السلام والاستسلام خلط معيب ينبغى ألا نقع فيه، فثمة فرق شاسع بين السلام والاستسلام، فالسلام مع من سالمنا امتثالًا لقول ربنا: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»، والبطش كل البطش مع من يعادينا ويحاربنا امتثالًا لقول ربنا: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ»، ولذا، فإن المبالغة فى قبول غطرسة المتغطرسين بدعوى أننا أمة سلام تجعل إيماننا بشرعنا منقوصًا، لأنها عندئذ تكون عين الاستسلام والانهزام والانكسار المذموم عرفًا وعقيدة.
ولعل وقائع التاريخ، بل إن موازين القوى فى العالم الآن، تثبت بجلاء أنه لا احترام إلا للقوى، وأن الضعيف المتخاذل مطمع لكل طامع، وقد أمرنا ربنا عز وجل أن نعد العدة على الأصعدة كافة، وأن نكون على أهبة الاستعداد لرد عدوان المعتدى وكف أذاه وردعه، فقال سبحانه: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ».
رابعًا: من العجيب بل من المحزن أن يتحدث العالم، بما فيه الكيان الصهيونى، ومن خلفه أمريكا، عن القدس كمدينة موحدة عاصمة للصهاينة، ولا يتحدثون عنها مقسمة إلى شرقية وغربية إلا عند حديثهم عن مفاوضات حل الدولتين الذى نصت عليه قرارات التقسيم التى قبلها العرب مع الأسف، متخذين ذلك ذريعة لإضفاء شرعية على الكيان الصهيونى، ثم تجدهم يتجاهلون جميع ما فى هذه القرارات، بما فى ذلك قيام الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشرقية! فإذا كانوا لا يعترفون بشرقى وغربى فى القدس، فلماذا لا نتحدث نحن العرب والمسلمين عن القدس بمنطقهم كمدينة موحدة عاصمة لدولة فلسطين؟! لماذا نحترم قوانين وقرارات ضرب بها مَن أصدروها عُرض الحائط؟! بل لماذا نظل على موقفنا من قرارات تقسيم فلسطين ما دمنا قد رضينا بها وقتئذ، طلبًا للسلام الذى لا ينفك الصهاينة يضعون العراقيل تلو العراقيل للحيلولة دونه، بل إن مواقفهم وتصريحاتهم كلها لا تمت للسلام بصلة؟! لماذا لا نطالب بفلسطين كاملة، وهذا حقنا دينًا وتاريخًا، ليكون لدينا ما نتفاوض عليه إن كان هناك تفاوض أصلًا؟!
خامسًا: إن الإرهاب الذى يمارسه الكيان الصهيونى بحق الفلسطينيين، ومقدساتنا الإسلامية والمسيحية فى القدس الشريف، لا يختلف كثيرًا عن الإرهاب الذى يضرب منطقتنا المنكوبة، فكلاهما صناعة إسرائيلية أمريكية خالصة، وعلينا أن نعلن ذلك صراحة دون مواربة أو مداهنة، ولنتوقف عن جلد أنفسنا، وعلى المنهزمين نفسيًّا والمغيبين عقليًّا أن يفيقوا وينتهوا عن اتهام مناهجنا التعليمية، وديننا الحنيف، وتراثنا السمح بالعنف والتطرف، فجميعهم براء من هذا الإرهاب الأسود الذى صنعوه وزودوه بالدعم اللوجستى، وكل سبل التمدد والانتشار، ثم اتخذوه ذريعةً لتدمير بلادنا، وفرض الوصاية على شعوبنا، وتحطيم آمالنا فى مستقبل أفضل لشبابنا والأجيال المقبلة!