ظهرت الأحكام الصادرة من المحكمة العسكرية ضد قادة الطيران فى نكسة 5 يونيو 1967 بجريدة المساء، فى نفس يوم صدورها «20 فبراير 1968»، فقام ناس عاديون بتمزيق الجريدة فى وسائل النقل، مثلما داسوها على الأرض، حسب تأكيد «أحمد كامل» أمين الشباب بمنظمة الشباب وقتها ورئيس المخابرات العامة عام 1971، وذلك فى مذكراته، تحرير: أحمد عز الدين، عن «دار الهلال - القاهرة».
تلقى «كامل» هذه الواقعة ضمن وقائع أخرى فى تقرير من أعضاء منظمة الشباب، وفى يوم 21 فبراير «مثل هذا اليوم»، اشتعل الغضب، وحسب «كامل»: «بدأت بوادر المظاهرات العمالية فى حلوان، وعلى وجه التحديد من مصنع 36 الحربى، وتجمهر العمال فى البداية، ولكن مدير المصنع تصرف معهم بحس بيروقراطى متسلط، فازدادت الإثارة، وتحول التجمع إلى مظاهرة، خرجت منظمة وسلمية وكان ينظم حركتها أعضاء «منظمة الشباب»، ثم انضم عمال مصنع 135 و360 وكلها مصانع طائرات إلى عمال مصنع 36، وحضر إلى المظاهرة عبداللطيف بلطية، رئيس اتحاد العمال، فحمله العمال على أكتافهم تعبيرا عن مظاهراتهم السلمية للتعبير عن آرائهم فى الأحكام، لكن الشرطة واجهت المظاهرة بخراطيم المياه ثم بالقنابل المسيلة للدموع، وفى مناخ التوتر والرفض تصاعدت الإثارة، وتعرض قسم حلوان للاعتداء، ومع تصاعد الموقف وتأزمه ثم انفجاره، استخدمت الشرطة بنادق الخرطوش ثم الطلقات الحية التى أصيب من جرائها عاملان نقلا إلى مستشفى حلوان».
ويذكر شعراوى جمعة، وزير الداخلية وقتئذ، فى مذكراته «شهادة للتاريخ»، إعداد: محمد حماد، عن «مركز الأهرام للترجمة والنشر - القاهرة»، قائلا: «أول ما اتصل علمى بنية العمال على الاحتجاج، تواصلت مع قادة الاتحاد الاشتراكى، وعلمت منهم: أن العمال مصممون على الخروج فى مظاهرات، حاولنا بالتفاهم أن نمنع خروجهم إلى الشارع، فلم ننجح، ولكننا استطعنا فى النهاية أن نعقد اتفاقا مع قيادات العمال بأن تخرج المظاهرات وتتجه إلى محطة المترو، وتتوقف عند هذا الحد، ثم يتم تشكيل وفد من العمال للتوجه إلى القاهرة، حيث مكاتب المسؤولين للتعبير عن آرائهم».
يضيف «جمعة»: «كانت قناعتنا أنه لن يحصل تناقض بين العمال وبين الثورة، ووصلت المظاهرات إلى قسم حلوان، فحصل احتكاك بين بعض الجنود وبين أفراد المظاهرة، وهذا أمر طبيعى، حيث الحشد الكبير من العمال يسير، وجنود الشرطة موجودون، وخشى المأمور أن يتم اقتحام مقر القسم، وأراد أن يحمى نفسه، وبدون تعليمات من المستويات القيادية للشرطة، أطلق بعض الرش فى الهواء لتفريق المظاهرة ومنعها من الدخول إلى حرم القسم، فحصلت بعض الإصابات، وفعلا تفرقت المظاهرة بعد صدام بينها وبين الشرطة وجرح بعض المتظاهرين وتم نقلهم إلى المستشفيات».
توجهت الأنظار إلى طلاب الجامعات، وحسب «كامل» فإن الطلاب حاولوا الحصول من وزير التعليم العالى على تصريح بعقد اجتماع احتفائى لمناسبة يوم الطالب العالمى فى قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة، ولكن خشية المسؤولين من اجتماع هذا العدد الكبير الذى يمكن أن يكون فى حد ذاته محرضا على الانفجار، حالت دون منحهم التصريح، وتم الاتفاق على أن يحتفل الطلاب فى كلياتهم دون تجمع مركزى، ووافق الطلاب، ومر الصباح هادئا فى الجامعات حتى بدأت بوادر المظاهرات العمالية فى حلوان».
يؤكد أحمد شرف، الطالب بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية وقتئذ، وأحد القيادات الطلابية اليسارية، أن مسيرة لمئات الطلاب داخل الجامعة بدأت من كلية الهندسة وانتهت إلى مدرج 78 بكلية الآداب، ويذكر فى كتابه «براءة سياسية» عن «مركز الحضارة العربية - القاهرة»: «لدى دخول الطلاب إلى المدرج اعتليت المنصة، وبهدوء خاطبت العقول، وفرقت بين دعاة التغيير الرجعى، لجعل النكسة تنتقل من مجال الهزيمة العسكرية لتمتد إلى ميادين الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للوطن، وحذرت من دعاة هذا الاتجاه، وركزت على مدى اختلافهم عما يجب أن ندعو إليه، أى التغيير إلى الأمام، التغيير الذى يعمق مسيرة الثورة لصالح التنمية، والمساواة بين الطبقات، والتغيير إلى الديمقراطية والمشاركة الشعبية فى الحكم، تلك المشاركة التى حسمت رفض الهزيمة، وضرورة استمرار الثورة فى يومى 9 و10 يونيو».
انفجرت القاعة بالتصفيق وفقا لشرف، وانطلقت دعوات عملية لكيفية صياغة المطالب وإلى من يتم التوجه بها، وفى غمرة هذه الموجة العامة دخلت طالبة صارخة مولولة، وأخذت تحكى كيف أنها جاءت لتوها من حلوان، وكيف شهدت المذبحة، وكيف يجرى دم العمال ويسيل، وكيف قامت الشرطة بفتح النيران على الآمنين، وكيف تصل أعداد القتلى للعشرات. يوضح «شعراوى» «أن هذه الفتاة كانت حركية جدا، ولها أخ معتقل، وادعاءاتها أدت إلى تأزم الموقف»، ويؤكد «شرف»: «اشتعلت القاعة، وانطلقت مظاهرة صاخبة طافت بالجامعة، وارتفعت الهتافات المعادية للنظام».
وتواصلت الأحداث