أنشأ الخديو عباس حلمى الثانى سكة حديد مريوط لإصلاح أرضه الزراعية بغرب الإسكندرية، «وتركها له الإنجليز كألعوبة ليلهو بها عن مناوأتهم»، حسب وصف «أحمد شفيق باشا» رئيس الديوان الخديوى فى الجزء الثانى من مذكراته الصادرة عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة».
تحولت هذه «الألعوبة» إلى أزمة كبيرة أقلقت مضاجع الخديو، وجعلته هو «ألعوبة» فى يد «اللورد كتشنر» مندوب الاحتلال البريطانى فى مصر، فالسكة التى مدها الخديو لإصلاح أرضه، قدمت له مصلحة السكة الحديد بعض ما عندها من الأدوات المستعملة بثمن قليل لتشغيلها، وكذلك أرسلت له نظارة الداخلية جماعة من المحكوم عليهم بالسجن ليساعدوه فى مدها، وفقا لتأكيد «شفيق باشا»، مضيفا، أنه قيل له «ترك الإنجليز هذه السكة له كألعوبة ليلهو بها عن مناوأتهم، وفضلا عن ذلك كان الخديو يشغل رجال الحرس فيها».
فى أوائل سنة 1913 بدأت أزمة هذه السكة وكان طرفاها الخديو عباس، واللود كتشنر الذى كان الآمر الناهى فيها، ويذكر شفيق باشا، أنه فى أوائل سنة 1913 وبعد عقد الصلح بين الأتراك والطليانين بثلاثة أشهر، أشيع أن الخديو باع سكة حديد مريوط إلى بنك درسدن الألمانى، فاهتم الإنجليز لهذا الخبر، ولكن ظهر فيما بعد أنه غير صحيح، والحقيقة أن الخديو كلف منصور شكور باشا بالبحث عن شركة إنجليزية تشترى هذه السكة الحديدية، وبالفعل وجد بعض الماليين الذين يرغبون فى الشراء، وفى أثناء ذلك وجد «شكور باشا» بنك إيطالى سيدفع مبلغا أكبر مما سيدفعه الماليين الإنجليز.
بقى الخديو مترددا لفترة فى مسألة البيع للبنك الإيطالى ثم حسم أمره وباع له ووقع العقد، وفقا لتأكيد «شفيق باشا»، ولم يقتصر الأمر على البيع وإنما منح الموافقة لهذا البنك بأن يمد الخط إلى حدود السلوم، ولما بلغ اللورد كتشنر أنباء هذه الصفقة جن جنونه وتوجه إلى سراى عابدين للقاء الخديو، وحسب شفيق باشا: «أبلغ كتشنر الخديو بأن سموه قد وضع نفسه فى مركز حرج، إذ باع أرضا ليست ملكا له، وأنه لذلك يكون مسئولا شخصيا أمام الحكومة المصرية صاحبة هذه الأرض، فخاف الخديو من العاقبة ووعد بإلغاء عقد البيع».
فكر الخديو فى الجهة التى يمكن أن تشترى هذه السكة ولا تثير غضب الاحتلال ممثلا فى «كتشنر»، فهداه تفكيره إلى أن الحكومة المصرية هى أصلح هذه الجهات، وبالفعل طلب منها أن تشترى، لكن اللورد «كتشنر» هو الذى رفض أيضا أولا حسب تأكيد شفيق، فاهتدى الخديو إلى أنه لا سبيل إلى إتمام الصفقة إلا برضا اللورد، فطلب من محمد سعيد باشا رئيس الوزراء أن يتوسط لديه مقابل وعد يقطعه على نفسه وهو حسب نص شفيق باشا: «تحسين سيره فى المستقبل»، وأخيرا ووفقا لشفيق، وافق كيتشنر على أن تشترى الحكومة السكة، وتمت الصفقة يوم 5 مارس «مثل هذا اليوم» عام 1913 بتسليم الحكومة السكة، وقبضت الخاصة الخديوية ثمنها من الحكومة وقدرها 390 ألف جنيه بحساب ثمانمائة جنيه للكيلو متر.
لم تنتهى القصة عند هذا الحد، وإنما امتدت إلى جوانب أخرى تكشف أيضا أن القرار فى مصر بيد «كتشنر»، فحين علم أن الوسيط فى هذه الصفقة كان هو يوسف صديق باشا رئيس الديوان الخديو عزم على نفيه خارج مصر، ويذكر شفيق، أنه لما علم «صديق باشا» بذلك الحكم القاسى، فكر هو الآخر فى أن يوسط أحد القريبين من اللورد لإثنائه عن هذا القرار، وكان يعلم أن أحمد جودت بك صديق لكيتشنر، فرجاه أن يتوسط فى هذه المسألة لدى اللورد لكى يحصل على وعد بعدم تنفيذ هذا الحكم، ويؤكد شفيق: «قبل البك وزار اللورد وتكلم معه فى هذا الموضوع».
كان الكلام مثيرا بين جودت بك، وكيتشنر، ويذكره «شفيق باشا» قائلا: «ألقى اللورد نظرة استغراب على وجه جودت بك وقال: «كيف تطلب منى ذلك وأنت تعلم ياجودت بك أنه رجل «بطال- مع عمله بأنه فى مركز رسمى عال، ولا يجوز له أن يتدخل فى مسألة يعلم جديا أنها ضارة ببلده»، فأجابه جودت بك: هل هو فقط الرجل «البطال» فى مصر؟، إن كان الغرض تنظيفها من الأشخاص البطالين، فهم كثيرون، فاعمل.. عندها تبسم اللورد ووعده خيرا»، ولما عرف الخديو بما يعتزم «كتشنر» فعله فى رئيس ديوانه أسرع فى فصله من رئاسة الديوان، وعينه ناظرا لخاصته، وأعطاه إجازة يقضيها فى أوروبا، على أن يقابله فى باريس.