نقلا عن العدد اليومى
لم يتخيل الأديب الراحل نجيب محفوظ، وهو يخط ملحمته «الحرافيش» فى سبعينيات القرن الماضى، أنها ستصبح اسما مستعارا يطلقه عدد من أهالى محافظة المنيا على المنطقة التى يقطنونها تعبيرًا منهم عن شدة الفقر والعوز الذى يسكن بين جنبات منازلهم.
على مسافة تقرب من 300 كم مربع من محافظة القاهرة، وتحديدا جنوب مدينة ملوى بمحافظة المنيا التى تحتل مرتبة متقدمة ضمن قائمة المحافظات الأكثر فقرا فى مصر، وفقا لأحدث إحصائية للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، توجد منطقة «الحرافيش» التى تستدل عليها من بيوتها المتلاصقة المصنوعة بالطوب اللبن، وشوارعها التى لا تتجاوز مساحتها بضعة أمتار عرضا، وأبنائها الرابضين أمامها يشكون للمارة حالهم.
داخل منزل متواضع مكون من طابق واحد، تعيش سيدة فى الستينيات من عمرها برفقة زوجها «أرزقى» وابنتها القعيدة ذات السبعة والعشرين عاما، يتقاسمون ثلاثتهم رغيفى خبز فقط وقطعة جبن، ويبدو أن هذه هى مائدتهم الثابتة فى الوجبات الثلاث الرئيسية كل يوم، فى هذا المكان تقضى نادية وزوجها صلاح وابنتهما أم هاشم ساعات يومهم، تحيط بهم مواسير المياه والشروخ من كل ناحية، يفترشون غطاء مهترئا هو ملاذهم الآمن من البرد القارس.
تقول «نادية»: زوجى فلاح يعمل يوم وعشرة بدون عمل، وكل ما نتحصل عليه شهريا هو 350 جنيها فقط، معاش وزارة التضامن الاجتماعى نصرف منها 150 جنيها مصاريف المياه والكهرباء وما يتبقى ننفقه على أنفسنا، وكل ما أتمناه هو أن ننتقل لمنزل أفضل حتى لا نعيش فى خوف من سقوط البيت على رؤوسنا فى أى وقت، وأن تعرض ابنتى على طبيب لتشخيص حالتها.
على بعد أمتار قليلة، تعيش سيدة أخرى تدعى حمدية فهمى، تتقاسم مع جارتها السابقة هموم الحياة التى تتشابه إلى حد كبير معها من حيث حاجتها فى الحصول على منزل آخر غير ذلك الذى تستأجره وتقطن فيه، تقول حمدية، ذات السبعين عاما: كنت أستأجر منزلا وتركته بعدما صدر ضده قرار بالإزالة واستأجرت منزلا آخر فى منطقة الحرافيش وضعه سيئ للغاية ولكنى لم أجد سواه، أعيش فيه برفقة أبنائى الثلاثة ولدين وبنت، الأكبر يعمل نجارا، والثانى بائع فى محل كشرى، متزوجان ولديهم أطفال، أما الثالثة فتعمل بائعة فى «بوتيك» وتتقاضى 250 جنيها شهريا وما نتحصل عليه هو 700 جنيه معاش أبى موظف الحكومة ننفق منها على المياه والكهرباء، وما أحتاجه هو علاجى من حساسية الصدر والانتقال لمكان أفضل.
أسر الحرافيش تتقاسم الغرف ودورات المياه
منزل أسمنتى يحوى غرفتين وحماما واحدا فقط تتقاسمه ثلاث أسر، منهم أسرة مكونة من ثلاثة عشر فردا، وعلى الرغم من إمكانية سقوط المنزل على رؤوسهم جميعا فى أى لحظة، نظرا للشروخ التى تخترق جدرانه فإن ضيق حالهم يمنعهم من البحث عن بديل، ويضطرهم للرضا بالأمر الواقع.
جمال شكرى، أكبر أفراد الأسرة سنا، رجل فى الخمسينيات من عمره، يعانى من انفصال فى الشبكية فى عينه اليسرى أفقده القدرة على الإبصار، يقول جمال: ذهبت للطبيب أخبرنى أننى بحاجة لعملية تكلفتها 15 ألف جنيه، وأنا لا أملك شيئا وحتى المعاش الذى تقدمت للحصول عليه من قبل وزارة التضامن تم رفضه دون أسباب، ويضيف: «أنفق ما أتحصل عليه من عملى غير المنتظم كمساعد بناء، ولدى من الأبناء ستة لا أعرف كيف أنفق عليهم ولكن كل ما يمكننى قوله هو أن وضع الشحاذين والسائلين أفضل منا».
واتفقت معه أم مصطفى، من أفراد الأسرة، قائلة: «زوجى كان يعمل مبيض محارة، وهو أب لطفلين، استأجرنا منزلا وتركناه بعدما عجزنا عن سداد الإيجار، وجئنا هنا لنعيش مع والدة زوجى وبقية أسرته»، وتضيف: «تقدمت بطلب فى الوظائف التى يتم الإعلان عنها بين الحين والآخر من قبل وزارة القوى العاملة، ولكن دون جدوى، وكل ما نتمناه هو أن نجد وظيفة بدلا من معاناة شباب المنطقة من البطالة».
قواسم مشتركة كثيرة جمعت بين أهالى المنطقة، بداية من منازلهم الآيلة للسقوط، وصولا للبطالة التى يعانى منها شباب الحرافيش أو صعوبة تجهيز الفتيات وتأهيلهم للزواج، وهذا ما حدث مع أم محسن التى تعجز عن تجهيز ابنتها نظرا لضيق حالها، تقول: «نعيش 8 أفراد فى غرفة واحدة وزوجى يعمل مساعد نجار يتقاضى 450 جنيها شهريا ننفق منها مصاريف المياه والكهرباء وكذلك أقساط المصاريف المدرسية لخمسة من أبنائنا، وما أحلم به هو أن أرى ابنتى الكبرى عروسًا».
معاناة الصرف الصحى:
صباح كل يوم، تخرج سيدات الحى حاملات على رؤوسهن جراكن بلاستيكية، ذاهبات لمنطقة تسمى «المشروع»، قطعة أرض خلاء تابعة للدولة تقع على بعد بضعة كيلو مترات من المنطقة، لإلقاء صرف منازلهن، مستغلين غياب الموظف الحكومى حتى لا يقوم بتحرير محاضر ضدهن ويغرمهن عشرات الجنيهات. غياب شبكات الصرف الصحى أحد المشاكل الرئيسية التى تقابل سكان المنطقة، تقول «أم محمد»: كل يوم بنشيل المياه ونسير بها أكثر من نصف ساعة لنلقيها فى المشروع، معندناش صرف صحى ولا حتى «طرنشات»، وننتظر الوقت الذى يختفى فيه الموظف ونجرى بسرعة لتفريغ الجرادل، وما نحلم به هو توصيل شبكات الصرف فى المنطقة.
فرن واحد ومدرسة مهجورة
فرن واحد فقط يخدم سكان منطقة الحرافيش وجنينة المغاربة، شكاوى كثيرة قدمها الأهالى لمجلس المدينة لإعادة افتتاح فرن معطل منذ 15 عاما لتقليل الضغط على الفرن الوحيد الموجود حاليا، ولكن دون جدوى، يقول «على البنا»: كان هناك فرن قيد الإنشاء، وفجأة توقف منذ خمسة عشر عاما، ذهبنا لمجلس المدينة لمعرفة أسباب تعطيل المشروع، فجاء الرد متعلقا بالرخصة وحتى الآن لم نحصل عليها ولا أعلم السبب، ولا يعقل أن يكون هناك فرن واحد فقط لخدمة أهالى المنطقة الذين يصل عددهم لما يقرب من 30 ألف نسمة.
مسافات طويلة يقطعها أطفال المنطقة للوصول لأقرب مدرسة، ترغمهم على الاستيقاظ مبكرا قبل موعد بداية اليوم الدراسى بساعتين، يسيرون على أقدامهم خمسة كيلومترات نظرا لعدم وجود وسائل مواصلات فى بلدتهم، هذا هو حال أطفال منقطة الحرافيش وجنينة المغاربة بعدما فقدوا الأمل فى الانتهاء من تجهيز المدرسة الوحيدة الموجودة فى المنطقة لتعليم أبنائهم، يقول البنا مشيرا إلى المدرسة «المهجورة» التى تحولت لبيت للحيوانات الضالة وامتلأت ساحتها بأكياس القمامة تبرع بها رجل أعمال منذ 20 عاما وتوقفت عملية البناء فجأة كحال أى شىء فى هذه المنطقة ولا نعلم السبب، كل ما توصلنا إليه أن هناك مجموعة أخرى تحاول السيطرة على أرض المدرسة والاستيلاء عليها دون وجه حق، وفى حالة افتتاح هذا المبنى أعتقد أنه سيحل كثيرا من المشكلات التى تواجه أطفالنا يوميا.
ليست مشكلات توفير الخبز والتعليم وفرص العمل وشبكات الصرف الصحى هى الوحيدة التى تواجه أهالى المنطقة، بل يضاف إليها معاناتهم من غياب الوحدات الصحية فى المنطقة، واضطرارهم لقطع مسافات طويلة للانتقال بأى حالة مريضة قد تتوفى فى أغلب الأحيان قبل الانتقال لأقرب مستشفى، يقول البنا: «أخى توفى بعدما عجزت عن الإلحاق به وإنقاذه، فهذه المنطقة لا تدخلها الإسعاف وأقرب مستشفى تقع على مسافة بعيدة.