مساء الخميس الماضى دخل الطفل "ب.أ" ذو الـ 14 ربيعا والمقيم فى دار السلام، ، إلى غرفته لينام كما يحدث كل يوم، لكنه هذه المرة كان لديه خططا أخرى، فقد أحضر "إيشاربا" وعلقه فى الحديد الظاهر بسقف حجرته ثم انتحر شانقا نفسه، وصباح اليوم أظهرت تحقيقات النيابة أن الطفل كان يمر بأزمة نفسية، نتيجة "معايرة" زملائه فى المدرسة له وسخريتهم منه بسبب مواجهته لصعوبات فى النطق، الأمر الذى دفعه لرفض الذهاب إلى مدرسته بداية، ثم فى النهاية الانتحار.
ما تعرض له الطفل "ب.أ" هو ما بات يطلق عليه اليوم "التنمر" وهو السلوك العدوانى الذى يمارسه طفل قوى، أو مجموعة من الأطفال، تجاه طفل يعانى ضعفا اجتماعيا ما، والذى بدأ العالم فى الانتباه له بقوة مع بدايات الألفية، باعتباره سلوكا مدمرا يواجهه الأطفال فى المدارس ويؤدى إلى عواقب وخيمة.
ووفقا للوكالة الوطنية للصحة فى الولايات المتحدة الأمريكية، فإن "التنمر" كان سببا فى 37 على الأقل من حوادث إطلاق النيران فى المدارس فى الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن دراسة بريطانية كشفت أن ما بين 15 إلى 25 طفلا ينتحرون فى بريطانيا سنويا بسبب تعرضهم للتنمر فى المدرسة، فيما ساعدت وسائل التواصل الاجتماعى على زيادة حجم التنمر وسهولة التخفى خلف هذه الوسائل وإرسال رسائل التهديد، أو "المعايرة" أو "السخرية" من أماكن وهمية.
وفى ديسمبر الماضى، شغل الولايات المتحدة قصة الطفلة "روزالى أفيلا" التى انتحرت فى ولاية كاليفورنيا، بسبب سخرية اصدقائها من لونها وأسنانها، ما شكل ضغطا نفسيا كبيرا عليها ودفعها للانتحار، الأمر الذى دفع أهل الطفلة لأن يقيموا دعوى قضائية يتهمون فيها المدرسة بالإهمال.
استاذ طب نفسى: الظاهرة منتشرة فى المدارس المصرية ولا تجرى مواجهتها
الدكتورة هبة العيسوى استاذ الطب النفسى بجامعة عين شمس، قالت إنالسلوك العدوانى الذى يمارسه طفل قوى"التنمر" أصبح منتشرا وبشكل ضخم للغاية فى المدارس المصرية، ومع الأسف لا يوجد وعى كافى بين العاملين فى سلك التعليم بهذه الظاهرة، بل إنهم على العكس لا يعتبرونها نوعا من العنف النفسى الحاد تجاه الطفل، ويرون أنه "لعب أطفال مع بعضهم البعض".
وقالت أستاذ الطب النفسى بجامعة عين شمس، إن الطفل الذى يتعرض للتنمر تظهر عليه أعراض التوقف أحيانا عن الحديث، وأن يعانى من مشكلات فى النطق، وأحيانا يصل الأمر إلى عدم تحكمه فى الإخراج سواء البول والبراز أثناء النوم رغم أنه كان من قبل متحكما جيدا فى عملية الإخراج، وأحيانا يعانى من التقيؤ النفسى، ويتطور الأمر بعدها لرفضه الذهاب إلى المدرسة وعندها يبدأ الأهل فى اكتشاف المشكلة.
وضربت الدكتورة هبة العيسوى مثلا لوالدة طفل اشتكت لها اليوم من تعرض ابنها لنوع حاد من التنمر فى أحد المدارس الحكومية، إذ أن أصدقاءه يقومون بوضع قلم فى مؤخرته، فى حين أن القائمين على المدرسة من إداريين ومعلمين يطالبونها بإثبات هذه الواقعة.
ونصحت أستاذ الطب النفسى أهالى أى طفل يتعرض للتنمر بالذهاب مباشرة إلى إدارة المدرسة والشكوى، وبعدها اللجوء إلى الأخصائى الاجتماعى الموجود فى المدرسة، فإن لم يكن موجودا أو متعاونا فيمكن للأهل اللجوء إلى الطبيب النفسى الموجود فى كل مستشفيات التأمين الصحى، كما رأت ضرورة عمل دورات تدريبية للمعلمين على طريقة التعامل الفعال للوقاية من التنمر، وترشيد الأطفال المتنمرين.
أما الطفل المتنمر فرأت الدكتورة هبة العيسوى أن أهله يجدون أيضا مشكلة فى التعامل معه، وفى كثير من الأحيان قد يكون الحل هو لجوء الأطفال الذين يقع عليهم العدوان من المتنمر إلى آخرين أكبر منهم سنا والقيام بضرب الطفل المتنمر، ما يخلق فى النهاية بيئة مدرسية غوغائية ومضادة للمجتمع ينتشر فيها العنف والفوضى.
استشارى للصحة النفسية: سلوكيات الأهل مع الأطفال تنعكس عليهم فى مدارسهم
الدكتورة إيمان دويدار، استشارى الصحة النفسية وتعديل السلوك بوزارة الصحة، من جانبها قالت إن المجتمع لا يقبل الاختلاف سواء فى الشكل أو المضمون وهو ما ينتج عنه فى النهاية "ظاهرة التنمر فى المدارس"، وأرجعت الدكتورة إيمان دويدار المسألة بالسلوكيات المكتسبة من البيئة التى يعيش فيها الطفل المتنمرفغالبا ما يكون قد تربى فى بيئة سلبت كل حقوقه فى القيادة والتعبير عن رأيه او الإحساس بحقه إنه يكون مستقل فى قراره، فسحبت منه جميع هذه الحقوق البسيطة فى اختيار شكل ملابسه، أو ألعابه، وهذا الحرمان ينعكس بشكل عدوانى عبر التنمر تجاه زملائه فى المدرسة.
أما الطفل المتنمر به ففى المقابل لم يعطه الأهالى مهارة الثقة بالنفس، والثقة فى مواطن الضعف، وعدم مساعدته وتقديم الدعم العاطفى للطفل والمساندة النفسية، الأمر الذى يخلق لدى الطفل إحساس بالدونية، ما يجعله عرضة للتنمر، ويزيد الأمر فى حالة معاناة الطفل من مشكلات فى النطق، مثل حالة طفل "دار السلام"، والذى قد يكون التعثر فى النطق أحيانا مكتسبا نتيجة هذا الإحساس بالدونية.
ورأت الدكتورة إيمان ضرورة خلق وعى مجتمعى بمشكلات التنمر، وخلق ما يسمى بـ "الوالدية الإيجابية" عبر زيادة ثقة الأطفال بأنفسهم، من خلال الأسرة أو مجتمع المدرسة أو النادى، وكذلك دمج الأطفال ذوى "القدرات الخاصة" مع غيرهم من الأطفال الأمر الذى يعزز ثقتهم بنفسهم.
استشارى طب نفسى: إظهار "الشرير" بطلا فى الدراما هو السبب
أما الدكتور جمال فرويز استشارى الطب النفسى، فقد رأى أن سلوك التنمر هو أمر منتشر فى مصر بل وبدأ فى الازدياد مؤخرا، ولا يتوقف عند طبقة اجتماعية معينة، معزيا الأمر إلى انهيار الثقافة فى المجتمع ككل، واكتساب المجتمع لثقافته مما أسماه بـ "الإعلام السلبى" الذى يقدم الشخص العدوانى والمتنمر كأنه بطل يجب الاقتضاء به.