بدأ الزعيم الوطنى محمد فريد فى تنفيذ خطته السرية بالسفر خارج مصر فى نفس اليوم الذى كانت تعتزم الحكومة القبض عليه فيه، وبعد أن أفضى إلى زوجته بسر سفره شجعته، فأوصاها بالأولاد «راجع-ذات يوم 24 و25 مارس 2018».
يروى فريد فى مذكراته المنشورة بالمجلد الثانى من «مواقف حاسمة فى تاريخ القومية العربية» لمحمد صبيح، وقائع يوم 26 مارس «مثل هذا اليوم» 1912.. اليوم الذى غادر فيه مصر قائلا: «نزلت من المنزل فى نحو الساعة السادسة صباحًا، ولم آخذ القطار من محطة الحلمية، بل سرت على الأقدام نحو كيلو متر، وركبت القطار من محطة الزيتون، ثم سافرت بالأكسبريس، وقابلت بمحطة مصر وبالقطار عديدين من أخوتى ومن المعارف، فسألونى عن جهة سفرى، فكنت أجيبهم بأنى قاصد الإسكندرية للمرافعة فى قضية، وسأعود فى المساء، ولم أبح لأحد بالسر حتى ولا لمحمد بك عبداللطيف الأجزجى بطنطا، ولذلك بلغنى- فيما بعد- بأنه امتعض لأنى كتمت الأمر عنه».
وصل «فريد»إلى الإسكندرية، وقصد المحكمة استكمالا منه للتمويه حسب خطة السفر، ويؤكد: «توجهت منها لإدارة جريدة «وادى النيل»، وقابلت محمد الكلزة وأخبرته بالسر، وعند حضور قطار الساعة الثانية عشرة والنصف من مصر «القاهرة»، قصدت لوكاندة «أبات» للغداء، وهناك حضر إسماعيل بك ومعه عبدالله بك طلعت، وبعد الأكل قصدنا الوابور الروسى، فركب إسماعيل وأخوه العربة، وركبت أنا مع الكلزة، ولما وصلنا إلى الرصيف نزلا هما أولا وصعدا إلى الوابور، ثم نزل الكلزة ليرى إذا كان الدخول سهلا أم لا، وإذا كان هناك مراقبون»؟
غاب «الكلزة» مما اضطر فريد إلى البحث عنه، وحسب روايته: قابلنى ضابط من حرس الجمرك أسود، يظهر عليه أنه جعفرى وأنه لم يعرفنى، فدلنى على مكان صعود الوابور، فصعدت إلى غرفة إسماعيل بك، أما الكلزة فانصرف بعد قليل، ثم حضر محمود بك فهمى المحامى بالقطار الذى يصل الإسكندرية الساعة الثالثة بعد الظهر، وجاء الوابور وسلم على، ثم انصرف، وظل على الرصيف حتى قامت الباخرة».
حرص «فريد» على أن يبقى مجهولا، ويروى: «عند حضور مفتش الكرانتينة دخلت إلى محل الأدب، واختفيت فيه نحو عشر دقائق، وخرجت لما نادانى إسماعيل لبيب، وبعد قيام السفينة دفعت أجرة السفر، ولم أعلم الكمسارى باسمى، وأظنه هو ومن بالوابور لم يعرف اسمى مطلقا، وتحركت الباخرة فى نحو الساعة الرابعة مساء 26 مارس 1912».
يصف عبدالرحمن الرافعى فى كتاب «محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية «عن» دار المعارف-القاهرة»، آخر لحظات فريد على أرض مصر: «اجتازت الباخرة البوغاز، وما لبث أن صعد على ظهرها، وأخذ يسرح الطرف فى شواطئ المدينة، ومعالمها البادية، وهى تحتجب رويدا رويدا، وكلما أوغلت الباخرة فى اليم زاد تحديقه إليها، لكى لا يفوته أن يلقى النظرة الأخيرة على أرض الوطن وسمائه، وظل واقفًا يرنو ببصره إلى أفق مصر، حتى توارت الباخرة بين لجج البحار، وغاب الأفق عن الأبصار، وكانت هذه اللحظة هى آخر عهده برؤية مصر، ثم وقف هنيهة ينظر إلى حيث المعالم الغائبة عن بصره الماثلة صورتها فى فؤاده، ولسان حاله يذكر قول «الشريف الرضى» وتلفتت عينى فمذ خفيت/عنها الطلول تلفت القلب».
يضيف الرافعى: «لكم فكر عندئذ فى الأرض التى أحبها واضطر إلى مفارقتها، والسماء التى عشقها، وأرغم على هجرها وزوجته وبنيه، وأهله الذين يحبهم ويحبونه، فباعدت الأقدار بينه وبينهم، وأصدقائه وأنصاره وتلاميذه الذين يحنو عليهم، ويأنس لهم، ويطمئن إليهم، والنيل الذى هام به.. هكذا كتب على الزعيم المخلص لقومه وأمته، أن يكون جزاؤه على بره وإخلاصه، الهجرة من وطنه، وكتب على مصر التى ترحب بالقريب والبعيد، وتؤوى الأشرار والمجرمين، وطريدى العدالة من مختلف الملل والنحل، أن تضيق فلا تتسع لابنها البار الكريم».
اقتربت الباخرة من «بريه» فى اليونان، وعزم محمد فريد وإسماعيل لبيب النزول للتوجه إلى العاصمة اليونانية «أثينا» لحضور مؤتمر المستشرقين الذى سيعقد بعد أسبوع، وكانا مشتركين فيه حسب تأكيد فريد، مضيفا: «رأى إسماعيل بك ألا أنزل إلى البر بل استمر فى السفر إلى الآستانة، بما أن حكومة اليونان صغيرة وممالئة للإنجليز، ولا يبعد عليها أن تسلمنى، فاستحسنت رأيه، وبقيت فى السفينة لحين إقلاعها، أما هو فنزل إلى البر بضع ساعات ثم عاد، ولما وصلنا أزمير نزلنا معا إلى البر، وأرسلت تلغرافا إلى الشيخ عبدالعزيز جاويش أخبره بحضورنا، وأخيرا وصلنا إلى الآستانة صباح الأحد 31 مارس 1912».
وبدأت حياة محمد فريد فى الغربة التى استمرت سبع سنوات انتهت برحيله فى 18 نوفمبر 1919، فكيف مضت منذ اليوم الذى وصل فيه إلى الآستانة؟