شعر الخديو عباس حلمى الثانى بأن هناك من دبر ما رآه بعينيه للانتقام منه وهو فى طريقه إلى سراى عابدين، وذلك بسبب قانون المطبوعات الذى يحد من حرية الصحافة.
كان الخديو يعيش مرحلة الوفاق مع الاحتلال الإنجليزى، وفقا لتقدير عبدالرحمن الرافعى فى كتاب «محمد فريد - رمز الوطنية والإخلاص» عن «دار المعارف - القاهرة»، فاشتدت حملات الصحف ضده، وحسب أحمد شفيق باشا رئيس ديوان الخديو عباس حلمى الثانى فى مذكراته الصادرة عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة»: «بعض الصحف، وخصوصا المنتمية للحزب الوطنى، تمادت فى شدتها ضد شخص الخديو حتى كانت ترميه بخيانته لوطنه والاتفاق مع الإنجليز ضد مصالح الأمة، فضاق سموه ذرعا بهذه الحملات».
كلف الخديو رئيس حكومته بطرس غالى باشا بمواجهة هذه الحملات، فاستقر رأى الحكومة على بعث «قانون المطبوعات» الصادر فى 26 نوفمبر سنة 1881 إبان الثورة العرابية، وتم وقف العمل به منذ زمن، وأصدرت الحكومة قرارها يوم 25 مارس 1909، حسبما يؤكد عبدالرحمن الرافعى، ونشرته الوقائع الرسمية يوم 27 مارس وفقا لشفيق باشا، ويذكر الرافعى نص قرار الحكومة وهو:
«إن الحكومة لم تنفذ منذ سنة 1894 قانون المطبوعات الصادر فى 26 نوفمبر سنة 1881، وحيث إن الجمعية العمومية طلبت من الحكومة فى 26 مارس سنة 1902 ردع الجرائد عن تجاوزها الحدود، وعن الفوضى التى وصلت إليها، وأرسل إليها مجلس شورى القوانين طلبا مثل هذا فى يوم 20 يونيو سنة 1904، وحيث إن عدم تنفيذ قانون المطبوعات لم يزد هذه الجرائد إلا تماديا فى التطرف والخروج عن الحد، حتى أدى ذلك لشكوى الناس بلسان الجمعية العمومية، ومجلس شورى القوانين، من هذه الحالة التى أضرت بمصالح البلاد ضررا بليغا، فقد قرر مجلس النظار: يعمل بأحكام قانون المطبوعات فيما يتعلق بنشر الجرائد فى القطر المصرى» .
كان هذا القانون فى صيغته منذ صدروه بعد هزيمة الثورة العرابية وفقا للرافعى: «يخول لوزارة الداخلية حق إنذار الصحف، وتعطيلها مؤقتا أو نهائيا دون محاكمة أو دفاع»، ويشير شفيق باشا إلى الجهود التى تمت لدى الخديو لصرفه عن هذا الأمر، ومنها كلام الشيخ على يوسف، رئيس تحرير وصاحب جريدة «المؤيد» فى لقائهما يوم 19 مارس: «إن هذا الأمر لا يصح بعثه بعد ربع قرن، وإنه يسىء إلى الجميع من حيث الحرية التامة، وسنحتاج لاستعمال هذه الحرية فى وقت ما فلا نجدها»، فأجاب الخديو بكلام يؤكد أن سلطة الاحتلال الإنجليزى ضالعة فى هذا الأمر، وذلك بقوله: «المخابرات بيننا وبين إنجلترا تقدمت تقدما عظيما ولا يمكننا الرجوع إلى الوراء»، فرد على يوسف: «ما ذنبنا إذا خرج بعض الصحف عن حد الأدب فى انتقاداتها على الحكومة، فكيف يؤخذ البرىء بجريرة المذنب مثل محررى «اللواء» و«الجريدة» الذين لا ذمة لهم؟!».
احتج الحزب الوطنى بزعامة محمد فريد على قرار الحكومة، وبلغ احتجاجه الخديو، ويؤكد «الرافعى» أن سخط الرأى العام تزايد ضد حكومة بطرس غالى باشا، «وانهالت رسائل الاحتجاج وبرقياته، وقرارات الهيئات والجماعات بالاحتجاج، وقامت المظاهرات، وكانت أول مظاهرة يوم الجمعة 26 مارس، حيث اجتمع آلاف من الشبان، من طلبة المدارس العليا والأزهر وطوائف التجار والصناع، بحديقة الجزيرة، وخطب الخطباء، وبعد أن انتهت الخطب، سار المجتمعون فى مظاهرة احتجاج طافت شوارع العاصمة، وانضم إليها من قابلوهم أثناء سير المظاهرة حتى بلغ عددهم عشرة آلاف، وانتهت المظاهرة فى ميدان الأوبرا».
يذكر شفيق باشا، أنه فور نشر الوقائع الرسمية فى يوم 27 مارس لقرار مجلس النظار، ثارت جميع الصحف، وحملت «اللواء» على القانون بعنف ووردت تلغرافات للجمعية وللحكومة بالاستياء منه، أما فى اليوم التالى 28 مارس «مثل هذا اليوم عام 1909» فكانت هناك طريقة مبتكرة فى الاحتجاج يذكرها شفيق قائلا: «ذهب الخديو إلى المحطة لتوديع «الدوق أوف كنوت»، وفى أثناء ذهابه وعودته إلى عابدين، لاحظ أن بعض الطلبة الذين ينتمون إلى الحزب الوطنى كانوا جالسين على قهوة «الشيشة»وغيرها فى حالة عدم اكتراث، ولما مر عليهم لم يتحركوا ولم يقفوا لأداء السلام بل بالعكس رفعوا ساقا فوق ساق ونظروا إليه».
يؤكد شفيق باشا: شعر سموه «الخديو عباس» أنه لابد أن يكون الحزب الوطنى قد كلفهم بتنظيم هذه المظاهرة انتقاما منه بسبب قانون المطبوعات والصحافة.