كان جمال عبدالناصر فى الشهور الأولى لعام 1967 يحاور ويناقش ويفكر، ليفهم متغيرات عصر يرى ظواهرها أمامه، ولا يستطيع أن ينفذ إلى أعماقها، حسب تقدير محمد حسنين هيكل فى كتابه «الانفجار 1967»، ففى يوم 9 مارس 1967 قابل الفيلسوف الفرنسى الشهير «سارتر»، وفى يوم 29 مارس «مثل هذا اليوم عام 1967» قابل وزير خارجية الاتحاد السوفيتى «جروميكو» فى القاهرة، وحضر اللقاء محمود رياض، وزير الخارجية المصرية، والسفير السوفيتى فى القاهرة، «ديمترى بوحداييف».
تحدث عبدالناصر بصراحة عما رآه غريبًا ومحيرًا فى السياسة السوفيتية، وحسب محضر اللقاء، وفى صفحة 21، قال لجروميكو: «هناك مسألة تلفت نظرنا، ورأيت أن أبحثها معك صراحة، فقد سمعتك قبل قليل تتحدث عن الصراع المستمر بينكم وبين الولايات المتحدة الأمريكية، والحقيقة أنه ينتابنى شعور مخالف لما سمعته منك، فنحن نلمس أن العلاقة بينكم وبين الأمريكان طيبة جدًا، وهناك محادثات مستمرة بينكما، كما أن هناك اتفاقًا على كثير من المسائل، والصحف العالمية مليئة بالمقالات عن هذا التقارب، وألفت نظرك إلى مقال نشرته جريدة لوموند الفرنسية فى الأسبوع الماضى، ويتكلم عن عمق المحادثات، التى تجرى بين الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة، وسأترك المقالات جانبًا وأروى واقعة بالتحديد، فبعد عودة المشير عبدالحكيم عامر: «القائد العام للقوات المسلحة» من موسكو أخيرًا، فوجئ سفيرنا فى واشنطن بوكيل وزارة الخارجية الأمريكية يقول له مسألتين:
الأولى، أن وكيل الخارجية قال لسفيرنا إنكم - أى السوفيت - أطلعتوهم على تفاصيل المحادثات التى جرت بينكم وبين المشير، وقال له بالتحديد إنهم عرفوا منكم أن كمية القمح التى اتفقنا عليها وهى 250 ألف طن..المسألة الثانية، أن وكيل وزارة الخارجية الأمريكية قال لسفيرنا، إن هناك اجتماعات دورية بين أفراد من السفارة الأمريكية، وأفراد من السفارة السوفيتية فى القاهرة، وأن السفارتين تبحثان معًا بعض المسائل التى تهمهما فى القاهرة».
أضاف عبدالناصر: «لابد أن أقول لك إننا عندما سمعنا هذا الكلام اندهشنا واستغربنا جدًا، وكان رأى المشير عامر أن يثير هذا الموضوع صراحة معكم، وطلبت منه أن لا يفعل، وأنا أضيف إلى ذلك الآن وأمامك، أنه إذا كان هذا هو السبيل لصيانة السلام العالمى فكل ما نطلبه هو أن نعرف الحقيقة، فنحن لا نستطيع أن نفرض أنفسنا على الاتحاد السوفيتى، إن علاقتنا مع الولايات المتحدة تسوء يومًا بعد يوم، ونحن تحت شعور أنكم تقفون معنا، ولكن ما نسمعه يثير مخاوفنا، فنحن لا نعادى سياسة الولايات المتحدة لأننا نريد ذلك، وإنما نعاديها لأننا مضطرون، فإذا كان موقفكم قد تغير فمن الحق أن نعرف ماذا حدث وما دواعيه؟
انتقل عبدالناصر إلى نقطة أخرى، ففى صفحة 23 من المحضر، قال لجروميكو: «مادمنا نتكلم بصراحة فهناك موضوع آخر أثار استغرابنا وهو أنكم أعلنتم صفقة بيع سلاح لإيران، لقد أعلنها رئيس وزراء إيران فى البرلمان الإيرانى، وقال فى إعلانه ولابد أنكم سمعتم: «إن تحسن العلاقات مع الاتحاد السوفيتى سيمكننا من نقل الجيش الإيرانى إلى الجنوب حتى نستطيع الوقوف ضد أطماع الجمهورية العربية المتحدة «مصر»، وهذا فى رأينا يعنى أن إيران مقبلة على استفزاز عسكرى موجه إلى العراق، مقدما أستطيع أن أتوقع أنك ستقول لى إن سياسة الاتحاد السوفيتى من وراء إعطاء أسلحة لشاه إيران هى حصر النفوذ الأمريكى، وعدم ترك أمريكا تنفرد بإيران، لكن هذا كلام لا يدخل العقل بسهولة، فارتباط شاه إيران بأمريكا ارتباط عضوى، وأنتم أكثر منى تعرفون ذلك».
ثم تحدث عبدالناصر عن قضية مقاومة الاستعمار، قائلا: «أريد أن أفهم موقفكم أكثر فى هذه القضية، والحقيقة لست متأكدا من فهمى لموقفكم إزاءها، وقبل أن أنزل للقائك كنت أطالع برقيات المراسلين الأجانب الصادرة من القاهرة، وأكثر ما لفت نظرى فيها هو أن جميع هذه البرقيات أجمعت على نقطة واحدة وهى، أن المستر جروميكو قادم لزيارة القاهرة لكى يخفف حدة التصادم بيننا وبين بريطانيا فى الجنوب العربى «اليمن الجنوبى»، نريد أن نعرف موقفكم بصراحة، فخططنا كلها مبنية على مقاومة الاستعمار فى منطقتنا، ونحن واثقون أننا إذا لم نقاوم الاستعمار ونقضى عليه فإنه هو الذى سيقضى علينا وهنا فى القاهرة..نحن مع الوطنيين فى الجنوب العربى، كما كنا معهم فى الجزائر، فهل أنتم عند نفس الموقف من قضية الاستعمار، أو أن موقفكم تغير؟