«غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه، إنما أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، حيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوفر، تحفظ القضية إداريا».
هكذا اختتم «محمد نور بك» رئيس نيابة مصر قراره فى قضية «الشعر الجاهلى» يوم 30 مارس «مثل هذا اليوم 1927»، المتهم فيها الدكتور طه حسين، وفقا لنص القرار المنشور فى «مجلة القاهرة، وزارة الثقافة - القاهرة 1995»، ضمن عددها الخاص عن هذه الأزمة التى شهدتها مصر عام 1926.
بدأ «نور بك» تحقيقاته فى القضية يوم 19 أكتوبر سنة 1926، ووفقا لقرار النيابة، فإن التحقيقات تمت نتيجة بلاغ تقدم به الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالى بالأزهر لسعادة النائب العمومى يوم 30 مايو 1926، يتهم فيه الدكتور طه حسين الأستاذ بالجامعة المصرية بأنه ألف كتابا أسماه «فى الشعر الجاهلى»، ونشره على الجمهور، وفى هذا الكتاب طعن صريح فى القرآن العظيم، حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوى الكريم».
وكشف قرار النيابة أنه بتاريخ 5 يونيو سنة 1926، أرسل فضيلة شيخ الأزهر لسعادة النائب العمومى خطاباً يبلغ به تقريرا رفعه علماء الجامع الأزهر عن الكتاب، يتهمونه بأنه «كذب فيه القرآن صراحة، وطعن فيه على النبى صلى الله عليه وسلم، وعلى نسبه الشريف، وأهاج بذلك ثائرة المتدينين، وأتى فيه بالنظم العامة ويدعو الناس للفوضى، وطلب تقديمه للمحاكمة، وفى 14 سبتمبر 1926 تقدم «عبد الحميد البنان» عضو مجلس النواب ببلاغ يتهم فيه طه حسين بالطعن والتعدى على الدين الإسلامى».
كان «طه حسين» خارج مصر، وأرجأت النيابة بدء التحقيقات لحين عودته، لكنه يصور موقفه منها فى كتابه «رحلة الربيع والصيف» عن «دار العلم للملايين - بيروت»: «سافرت على كره من قوم لو استطاعوا لأمسكونى فى مصر، وأنا الآن أسافر رغم هذا الشيخ الذى نهض فى مجلس الشيوخ يستصرخ المسلمين، ويستغيث برئيس الوزراء على - لأنى - فيما زعم مسخروه - عرضت الدين للخطر».
عاد «حسين»، وبدأت التحقيقات يوم 19 أكتوبر 1926 حول أربع اتهامات هى: «المؤلف أهان الدين الإسلامى بتكذيب القرآن فى إخباره عن إبراهيم وإسماعيل، والزعم بعدم إنزال القراءات السبع من عند الله، وإنما قرأتها العرب حسب ما استطاعت»، أما الاتهام الثالث فهو: «طعن المؤلف فى كتابه على النبى صلى الله عليه وسلم، طعنا فاحشا من حيث نسبه، والاتهام الرابع: أن المؤلف أنكر أن للإسلام أولية فى بلاد العرب وأنه دين إبراهيم».
يوضح «نور» طريقته فى التحقيقات: «أخذنا فى دراسة الموضوع بقدر ما سمحت لنا الحالة»، ويتحدث عن مبدأ مهم وهو: «من حيث إن العبارات التى يقول المبلغون إن فيها طعنا على الدين الإسلامى، إنما جاءت فى كتاب فى سياق الكلام على موضوعات كلها متعلقة بالغرض الذى ألف من أجله، فلأجل الفصل فى هذه الشكوى لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها، والنظر إليها منفصلة، وإنما الواجب توصلا تقديرها تقديراً صحيحاً بحثها حيث هى فى موضوعها من الكتاب، ومناقشتها فى السياق الذى وردت فيه، وبذلك يمكن الوقوف على قصد المؤلف منها وتقدير مسؤوليته تقديرا صحيحا».
وطبقا لهذا النهج، استمع «نور» إلى دفاع طه حسين، وحول ما إذا كان استنتج الكلام الذى جاء فى كتابه أم نقله من غيره، قال: «هذا فرض فرضته دون أن أطلع عليه فى كتاب آخر، وقد أخبرت به بعد أن ظهر الكتاب أن شيئا مثل هذا الغرض يوجد فى بعض كتب المبشرين، ولكنى لم أفكر فيه حتى بعد ظهور كتابى»، وقال إن كلامه ليس فيه طعن فى نسب النبى، وأنه لا ينكر أن الاسلام دين إبراهيم، ولا أنه له أولية فى بلاد العرب، وأن ما ذكره هو رأى القصاص فقد أنشأوا حوله كثيرا من الشعر والأخبار»، وعن القراءات السبع المجمع عليها قال: «إن القراءات نزل بلغة قريش، ولكن القراء من القبائل لم يكادوا يتناولونه بلهجاتهم حتى أمالوا فيه حيث لم تمل قريش»، وحول اتهامه بالطعن فى الدين، قال: «ما ورد فى كتابه هو على سبيل البحث العلمى من غير تقيد بشىء، وأنه كمسلم لا يرتاب فى وجود إبراهيم وإسماعيل، ولا فيما جاء عنهما فى القرآن».
لم يكن قرار النيابة بحفظ التحقيق فى القضية هو نهاية المطاف لهذا الكتاب، فحسب «الدكتور محمد حسن الزيات» فى كتابه «ما بعد الأيام» عن «دار الهلال - القاهرة»: «يعود الأستاذ إلى كتابه يرفع منه فصلا ويضيف إليه فصولا، ويصدره بعنوان جديد».