عاد العلماء إلى الثوار يعرضون عليهم الشروط التى توصلوا إليها مع الجنرال كليبر لوقف القتال المتبادل، ورفض زعماء الثورة، فأنذرهم كليبر بالاستسلام. كان ذلك أثناء ثورة القاهرة الثانية ضد الاحتلال الفرنسى الذى بدأ منذ مجئ الحملة الفرنسية إلى مصر بقيادة نابليون بونابرت فى يونيو 1798، واستمر حتى 1801.
اشتعلت ثورة القاهرة الثانية فى الفترة من «20 مارس 1800 إلى 21 إبريل»، وينقل عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الثانى من مؤلفه «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر» (دار المعارف- القاهرة) عن الجبرتى، كيف تواصل الحال منذ قامت الثورة وحتى مثل هذا اليوم «14 إبريل 1800»، وهو اليوم الذى تلقى فيه الثوار فى القاهرة وبولاق إنذارا بالاستسلام من الجنرال كليبر (نائب نابليون فى قيادة الحملة، ثم قائدها بعد عودة نابليون إلى فرنسا)، يقول الجبرتى: «استمر الحال على ما هو عليه من اشتعال نيران الحرب، وشدة البلاء والكرب، ووقوع القنابل على الدور والمساكن من القلاع، والهدم والحرق، وصراخ النساء من البيوت والصغار من الخوف، والجزع والهلع، مع القحط وفقدان المأكل والمشارب، وغلق الحوانيت والطوابين والمخابز، ووقوف حال الناس من البيع والشراء، وتفليس الناس وعدم وجدان ما ينفقونه إن وجدوا شيئا، واستمر المدافع والقنابر والبنادق والنيران ليلا ونهارا حتى كان الناس لا يهنأ لهم نوم ولا راحة ولا جلوس لحظة واحدة من الزمن، ومقامهم دائما أبدا بالأزقة والأسواق وكأنما على رؤوس الجميع الطير، وأما النساء والصبيان فمقامهم بأسفل الحواصل والعقودات تحت طباق الأبنية إلى غير ذلك».
يواصل الجبرتى: «جرى على الناس ما لا يسطر فى كتاب، ولم يكن لأحد فى حساب، ولا يمكن الوقوف على كلياته، فضلا عن جزئياته، منها عم النوم ليلا ونهارا، وعدم الطمأنينة، وغلو الأقوات، وتوقع الهلاك كل لحظة، والتكليف بما لا يطاق، وغلبة الجهلاء على العقلاء، وتطاول السفهاء على الرؤساء، وتهور العامة، ولغط الحرافيش، وغير ذلك مما لا يمكن حصره».
تفاقمت الثورة باتساع نطاقها واستبسال المصريين فى مقاتلة الفرنسيين، فطلب كليبر تكوين وفد يقوم بمهمة الوساطة بينه وبين الثوار وفقا للرافعى، مؤكدا أنه بالفعل تم تشكيل وفد من المشايخ، الشرقاوى، والمهدى، والسرسى، والفيومى وغيرهم، وقابلوا«كليبر» فعرض على أعضائه وقف القتال ومنح أهل القاهرة أمانا وافيا شافيا على أن يخرج الجنود العثمانيين من المدينة ولمن شاء من المقاتلين المصريين، وقال العلماء له إن المصريين يخشون إذا وقف القتال وخرج العثمانيون من المدينة أن ينكل بهم الفرنسيون، فرد كليبر: «إذا قبلتم شروطنا اجتمعنا بكم وبهم (العثمانيون والمماليك)، وعقدنا صلحا ولا نطالبكم بشىء والذى قتل منا فهو بمن قتل منكم (ولم يكن كليبر صادقا فى عهده)، فعاد العلماء بهذه الشروط ليعرضوها على رؤساء العثمانيين وزعماء الثوار، ويقول الجبرتى: «لما رجع المشايخ بهذا الكلام وسمعه الانكشارية والناس قاموا عليهم وسبوهم وشتموهم وضربوا الشرقاوى والسرسى ورموا عمائمهم وأسمعوهم قبيح الكلام، وصاروا يقولون هؤلاء المشايخ ارتدوا وعملوا فرنسيس، ومرادهم خذلان المسلمين، وأنهم أخذوا دراهم من الفرنسيس».
يرى «الجبرتى» أن ما حدث كان بمثابة «تغلب الجهلاء على العلماء»، ويضع الرافضين للاتفاق مع الفرنسيين فى خانة «الجهلاء»، ويدلل بما وقع من تهور منهم ضد الشيخ السادات الذى كان موجودا أثناء المفاوضات فى بيت الشيخ الصاوى، وعلم بما جرى للمشايخ من الإهانة والسب والضرب، فخشى عاقبة مخالفة العامة فى ميولهم، فتحير واحتال بأن خرج وأمامه شخص ينادى بقوله الزموا المتاريس ليقى بذلك نفسه من العامة، أما رؤساء العثمانيين ناصف باشا، وأدت كل هذه التطورات إلى إخفاق المساعى وتجدد المذابح، وفى يوم «14 إبريل 1800» أنذر «كليبر» العاصمة بالتسليم، ووجه نفس الإنذار إلى «بولاق» لكن الثوار لم يعبأوا به.
يذكر عبدالعزيز محمد الشناوى فى الجزء الثانى من كتابه «الأزهر جامع وجامعة» عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة»: «إزاء رفض زعماء الثورة التسليم أنذر كليبر العاصمة بالاستسلام، فلم يزد زعماء الثورة إلا إصرارا على مواصلة القتال، فأمر بالهجوم العام على حى بولاق وضربه بالمدفعية، وإشعال النيران فى البيوت والمتاجر والوكائل، وتناثرت جثث القتلى ودفنت عائلات بأكملها تحت الأنقاض، أو احترقت فى لهيب النيران حتى دمر الحى، ثم تتابع هجوم الفرنسيين على سائر أحياء القاهرة مثل، باب اللوق، والمدابغ، والفجالة، وكوم أبى الريش، وباب الشعرية، والرويعى، وباب البحر، وحاقت بالثوار الفظائع والأهوال».