"عبد الله مصباح" 10 سنوات، تلميذ فى الصف الرابع الابتدائى، ممنوع من اللعب خارج المنزل، بأمر من والدته، لا يستطيع الذهاب للمدرسة منفردًا كباقى أقرانه بعزبة أبو جازيه التابعة لمركز نبروه بمحافظة الدقهلية، والسبب ليس خشية عليه من الحسد كما دأبت سيدات القرى، إنما خوفًا عليه من الموت، بعدما مات "منصور" شقيقه الأكبر منذ عام.
القرية لا يصلها سيارات الإسعاف أو الإطفاء
تقع عزبة "أبو جازية" بمركز نبروه بمحافظة الدقهلية، وسط حقول تربط بين طريق بلقاس المنصورة، ومركز نبروه، ولكى تصل إليها لابد أن تسلك طريقًا ترابيًا وسط الحقول بطول 10 كيلومترات، ولا تستطيع سيارات الإسعاف أو الإطفاء الوصول إليها، ويعتمد الأهالى على الدراجات النارية فى الحركة والتنقل.
السيدة مسعدة رزق شحاتة إحدى سكان القرية قالت "ابنى الكبير منصور كان متوجها للمدرسة فى يوم كان ممطرا، الطريق كان مملوء بالوحل وأثناء ذهابه للمدرسة سقط فى المصرف، بحثنا عنه بعد تغيبه ساعات طويلة، ثم فجأة طفا على سطح الماء، أخرجه الأهالى من المصرف، وكان هنا فى القرية أحد الأطباء قال إنه لازال حيًا، أخذناه على موتوسيكل لمستشفى نبروه، ولكن حينما وصلنا قد فارق الحياة وأخبرنا الأطباء بوفاته".
الطريق الترابى الواصل بين قرية "أبو جازية" ومركز نبروه والمنصورة يحيطه من الجانبين مصرف صحى وزراعى، ومن الجانب الآخر ترعة لرى الحقول، وقعت عليه العديد من الحوادث خاصة فى ليل الشتاء، بسبب انزلاق الدراجات النارية، والعربات "الكارو" التى تمثل وسيلة النقل الوحيدة للأهالى بعد استحالة دخول السيارات فى الطريق الترابى والذى يمتد عرضه لمترين ونصف المتر فقط.
و"منصور" ليس الطفل الوحيد الذى لقى حتفه أثناء ذهابه للمدرسة، إنما حصد الطريق والمصرف المجاور له أرواح ما يزيد عن 7 أطفال خلال العامين الماضيين، اُثناء ذهابهم للمدرسة التى تقع على بعد 5 كيلومترات فى قرية مجاورة، فهم محرم عليهم اللعب خارج المنزل.
الأهالى يحرمون أبناءهم من التعليم خوفًا عليهم
وبعدما شكلت الرحلة للمدرسة خطرًا داهمًا على حياة الأطفال، منع العديد من الأهالى أبناءهم من الذهاب للمدراس، وروى سعيد عبد الحى "فلاح ومقيم فى قرية أبو جازية"، قائلا: "منعت ابنى من الذهاب للمدرسة، ليظل جوارى ويصبح فلاحا مثلى، أفضل من أن يموت تلميذا، ماذا جنى التلاميذ والطلاب من التعليم، حتى أعرض حياة ابنى للخطر من أجل التعليم، ولو دقق أحد من المسئولين فى قريتنا سيجد أنها القرية الوحيدة التى لم يخرج منها طبيب أو مهندس، أو حتى شاب حاصل على أى شهادة جامعية، كل الشباب هنا معهم شهادات متوسطة".
وأضاف "عبد الحى" طالبنا المسئولين كثيرًا ببناء ولو فصل واحد ابتدائى هنا، وتعيين أحد المدرسين الذين يتظاهرون يوميا للحصول على وظيفة فى هذا الفصل، حفاظا على أرواح أبنائنا فقط، ليس من أجل رفاهيتهم فى أن يقطعوا طريقا طوله 5 كيلومترات، ولم يستجب لنا أحد، طالبنا برصف الطريق، وتوسعته وتغطية المصرف مثلنا مثل باقى القرى، ولم يستجب أحد، فحفاظا على روح ابنى منعته من التعليم.
"مسعدة" تستيقظ صباحا مع أذان الفجر، وتقوم بأعمال البيت، فهى بعد قليل ستضطر لإعداد "السندويتشات" واصطحاب "عبد الله" للمدرسة، فى رحلة تتجاوز الـ5 كيلومترات، متذكرة "منصور" الذى فارق الحياة، والتى لم تخلع ملابسها السوداء حزنًا عليه حتى اللحظة، مصممة على أن يكمل "عبد الله" تعليمه، فلم يمنعها خوفها عليه فى أن تحلم بمستقبل مشرق له، وتقول: "أمنيتى أن يتعلم ابنى ويصبح ذو مركز مرموق، لا أريد أن ينتهى به المطاف بدبلوم أو بشهادة الإعدادية، "منصور" مماتش عشان الدبلوم، كان نفسى أشوفه دكتور.
وأمام تراجع المسئولين بمحافظة الدقهلية عن الاستجابة لمطالب أهالى القرية، تطوع أحد سكان القرية، بتوصيل الطلاب والتلاميذ للقرية المجاورة صباحا، واصطحابهم من المدرسة منتصف النهار بعد انتهاء اليوم الدراسى، فى "التروسكل" الذى يملكه لكسب قوت يومه.
ولم يجد أهالى القرية حلا للموت الذى يحيط بهم من كل الأطراف، سوى بتأجير قطعة أرض وتحويلها لملعب، فلا يوجد مركز شباب بالقرية، ولا وحدة صحية، فقام الأهالى بتأجير قطعة أرض يتشاركون جميعا فى ثمن إيجارها، وفرشها بالرمال، لتتحول لملعب للطائرة ظهرا، وملعب لكرة القدم عصرا، ليلهو فيها الأطفال، حيث تتحول قطعة الأرض التى لا تتجاوز 150مترا لصالة متعددة لجميع الألعاب.
وقال محمد عبد الهادى، أحد أبناء القرية "عندنا موهوبون فى كافة الرياضات، ولكن لا يوجد مركز شباب لممارسة هذه الرياضة، غرق الأطفال فى الترع حول العديد من الشباب فى القرية لسباحين، ولو تم استثمار هذه المواهب ستخرج قريتنا أبطالا للعالم، ولكن المسئولون أذن من طين وأخرى من عجين".
وقد حصل "انفراد" على صورة من مستندات تفيد بموافقة إدارة الطرق بمحافظة الدقهلية، برصف طريق قرية "أبو جازية" وردم المصرف الموجود بها، وتساءل العديد من سكان القرية لماذا لم يتم تنفيذ القرار، بعدما تظاهروا عشرات المرات أمام مبنى ديوان محافظة الدقهلية.
وهدد عشرات من أبناء القرية بالانفصال عن محافظة الدقهلية، فى حال عدم استجابة المسئولين، مطالبين المحاسب حسام الدين إمام محافظ الدقهلية بالاستجابة لمطالبهم وسرعة رصف الطريق حفاظًا على أرواح أبنائهم.
وقال سعد الفرماوى رئيس مركز ومدينة طلخا، فى تصريح لـ"انفراد"، إنه سيتوجه للقرية للوقوف على مشكلاتها، وسيتخذ كافة الإجراءات اللازمة لحل الأزمة، والارتقاء بالمستوى الخدمى للقرى.
يذكر أن "الفرماوى" تم تعيينه مطلع الشهر الجارى رئيسا لمدينة طلخا، عقب قرار رقم 844 لمحافظ الدقهلية، والذى شهد حركة تغيير لرؤساء مجالس ومراكز محافظة الدقهلية.