اتصل الكاتب الصحفى محمد التابعى بعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، يطلب منه تحديد موعد للزيارة، فرد عليه «العميد» بأنه يمكنه أن يحضر مساء الغد، الاثنين 21 إبريل عام 1969، وبعد انتهاء المكالمة سأل العميد سكرتيره «محمد الدسوقى»: «ماذا يريد الأستاذ التابعى منى؟ إننى لا أذكر أننى التقيت به مرة قبل الآن، وليست بينى وبينه صلة ما».
هكذا يروى «الدسوقى» فى كتابه «أيام مع طه حسين» عن «دار القلم-دمشق»، ويؤكد، أنه فى الموعد المضروب جاء الأستاذ التابعى، ويقول: «كنت أراه لأول مرة، دلف إلى حجرة المكتب بادى الإعياء زائغ النظرات، ولما جلس بجوار العميد، قال له: لست أدرى كيف أبدأ قصتى»، ويضيف الدسوقى: «تقدمت منه لأقدم له سيجارة، فاعتذر لمرضه، ولأن الطبيب منعه من الإكثار فى التدخين، وهمس فى أذن «العميد» بكلمات مفادها أنه يريد أن يحدث العميد على انفراد، فتركت حجرة المكتب، وجلست فى الردهة نحو نصف ساعة».
انصرف التابعى، ولما دخل الدسوقى على «العميد» فوجئ به يردد: «أعوذ بالله.. أعوذ بالله»، ويؤكد الدسوقى، أنه آثر الصمت، ولم يسأل عن السبب، واللافت أن طه حسين وقتئذ لم يكن يشغل منصبا تنفيذيا رفيعا، لكن مكانته وقيمته الأدبية كانت عابرة للمناصب، وكان «التابعى» عمره وقتئذ 73 عاما، «ولد يوم 18 مايو 1896، وتوفى يوم 24 ديسمبر 1976»، وكان صاحب مدرسة صحفية، تتلمذ كثيرون فيها أبرزهم مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل.
ويعد كتاب «من أسرار الساسة والسياسة- أحمد حسنين باشا» أشهر كتبه، وفى طبعته الصادرة عن «دار الشروق- القاهرة» قال هيكل فى مقدمته: «صاحب مدرسة فى علمه أو فنه.. اختلف مجال الكتابة الصحفية بعده عما كان قبله، وفى هذا الاختلاف بين السابق واللاحق يتبدى حجم تأثيره، مثله فى ذلك مثل غيره من مستواه فى مسيرة أى علم أو فن»، ويشير هيكل إلى أن الاختلاف الذى أحدثه التابعى «هو نعومة الكلمة وانسياب الكلام»، ويحدد إضافتين تحسبان له فى الكتابة الصحفية.. الأولى: «يبدو وكأن الألفاظ كانت على نحو ما فى حالة عشق مع قلم التابعى، فما أن يضع سن القلم على صفحة الورق حتى تذوب المعانى والصور لينة سائلة السطور».. والثانية: «أى قارئ لكتابات التابعى سوف تنكشف له قاعدة سمعته يكررها علينا كثيرا، مؤداها أن القصة فى التفاصيل».
ويكتب الكاتب الصحفى إبراهيم الوردانى عنه فى «جريدة مايو 19 أغسطس 1985» قائلا: «كان ريفيا مقتحما لمجتمع الأرستقراطية والطبقة الأرستقراطية فى عز غطرستها وكبستها، وبهراوة قلمه شمت فيهم، وهشم فيهم، وحولهم أمام العيون الشعبية إلى كاريكاتير، وإضحاك ونكت لواذع وقفشات، وسخريات.. كان فارسا شجاعا ضد الرجعية والجمود والتزمت والتخلف وجواده الأشهب هو الانطلاق والتحرر».. ويعتبره إبراهيم عيسى فى برنامجه التليفزيونى «حوش عيسى»: «سيد درويش الصحافة المصرية، ومن المظاليم الكبار فى تاريخنا بالرغم من أنه المؤسس الأهم للصحافة المصرية الحديثة».
يؤكد هيكل، أنه تتلمذ على يديه فى مرحلتين.. مرحلة الأصيل وفيها «لفتنى الوهج المهنى والسياسى والاجتماعى المحيط بجوانبها»، ثم «مرحلة الغروب» ويتذكرها بأسى: «لسوء الحظ أننى حضرت نزول الغروب أيضا حين قرر أن يبيع مجلة» آخر ساعة «التى أصدرها فى 14 يوليو 1934» إلى دار «أخبار اليوم» وصاحبيها الأستاذين «مصطفى» و«على» أمين، وكان البيع لنفس الأسباب التى ضاعت بها من قبل حصته فى جريدة «المصرى»، وباعها إلى شريكيه فى إنشائها، وهما الأستاذان «محمود أبوالفتح» و«كريم ثابت».
يضيف هيكل: «كان السبب فى الحالتين أن الرجل فنان لا يعرف قواعد الحساب، أو يتجاهلها، يظن أن مواهبه فوقها، وكذلك راحت أعباؤه تزيد على طاقته، أو بمعنى أكثر صراحة راحت ديونه تضغط على دخله بشدة تزداد وطأتها كل يوم، لكنه طوال الوقت يرفض النظر إلى العواقب فى عينيها كما يقولون»، ويؤكد هيكل: فى حياة «التابعى» بالذات كان التوهج الاجتماعى والرغبة فى الحفاظ عليه خصوصا مع تقدم السن وتباين الظروف معاناة باهظة.. وبمقدار ما حاولت وحاول غيرى فى مرحلة الغروب أن نعبر للرجل عن عرفاننا بفضله، فإن نور الحياة انطفأ عن «محمد التابعى» رجلا ثقيلة همومه، كسيرا قلبه، جريحة كبرياؤه، برغم أنه ملك فى لحظات الأزمة شجاعة ألا يرمى المسؤولية على غيره، بل يلوم نفسه».
كانت زيارته لطه حسين أثناء «مرحلة الغروب»، وفى 22 إبريل «مثل هذا اليوم» عام 1969، ظهر سرها، فحسب «الدسوقى»: «اتصل العميد هاتفيا فى صباح هذا اليوم بالأستاذ محمود أمين العالم، رئيس مجلس إدارة الأخبار، وقال له: هناك مسألة إنسانية تتعلق بالأستاذ التابعى، فقد حضر، أمس، عندى وحالته بؤس، ويرجو تقسيط ما عليه من ديون للأخبار»، ويؤكد «الدسوقى»: «لم أعرف رد الأستاذ «العالم»، غير أن العميد ختم حديثه معه بقوله: «أرجو أن تفعل ما تقدر عليه، وأحب أن أراك قبل سفرى».. اتصل عميد الأدب العربى بالتابعى، يطمئنه بأنه اتصل بالأستاذ «العالم»، ووعده خيرا، ثم أخبره بأنه سيحاول الاتصال بالأستاذ محمد حسنين هيكل، وتم الاتصال فى اليوم التالى.