يعترف عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين فى مذكراته «الأيام» بأنه «لقى السيدات فى بيئته تلك الريفية، لكنه لم يلقَ منهن القارئة الكاتبة البارزة التى تظهر فى مجلس الرجال وتحاورهم، فتلج فى المحاورة وتخاصمهم فتعنف فى الخصام، قبل أن يلقى تلك الفتاة».
الفتاة التى يقصدها «العميد» هى الأديبة والكاتبة اللبنانية مى زيادة التى جاءت إلى مصر مع والديها عام 1908، وعمرها 22 عاما، وتوفيت فيها «18 أكتوبر 1941»، وكان لها صالونها الأدبى الشهير، ووفقا للكاتبة سلمى الحفار الكزبرى فى مجلدها الأول: «مى زيادة أو مأساة النبوغ» عن «مؤسسة نوفل - بيروت»: «شقت طريقها فى وقت، المثقفات من النساء كن نادرات، والكاتبات العربيات كن أندر، فلم تعرف مصر سوى وردة اليازجية وعائشة التيمورية قبل مى».
يكشف «حسين» فى مذكراته «الأيام» طريقه إلى «مى» بدءا من يوم 24 إبريل «مثل هذا اليوم» 1913 الذى أقيم فيه حفل تكريم لشاعر القطرين «خليل مطران» بمناسبة منح الخديو عباس حلمى الثانى له وساما، ويؤكد أنه اعتذر إلى أستاذه فى الجامعة عن حضور الدرس، للذهاب إلى الحفل، ويذكر رأيه فيما سمع على لسان الفتى «بطل الأيام»: «سمع كثيرا من الشعر وكثيرا من الخطب، فلم يحفل بشىء مما سمع، لم يعجبه شعر حافظ إبراهيم فى ذلك المقام، مع أنه كان كثير الإعجاب بشعر حافظ، ولم تعجبه قصيدة مطران، لأنه لم يفهم منها شيئا، ولم يذق منها شيئا، وربما أحس فيها إسرافا من الشاعر فى التضاؤل أمام الأمير الذى أهدى إليه ذلك الوسام».
«لم يرض الفتى عن شىء مما سمع إلا صوتا واحدا سمعه فاضطرب له اضطرابا شديدا وأرق له ليلته تلك، كان الصوت نحيلا ضئيلا، وكان عذبا رائقا، وكان لا يبلغ السمع حتى ينفذ منه فى خفة إلى القلب فيفعل به الأفاعيل، ولم يفهم الفتى من حديث ذلك الصوت العذب شيئا، ولم يحاول أن يفهم من حديثه شيئا، شغله الصوت عما كان يحمل من الحديث، وكان صوت الآنسة مى التى كانت تتحدث إلى جمهور من الناس للمرة الأولى».
يتحدث طه حسين، عما جرى له بعد هذه الليلة، مؤكدا أنه ذهب إلى مدير «الجريدة» أحمد لطفى السيد: «قال له وسمع منه، ثم مازال يدور بحديثه حتى انتهى إلى حفل مطران، إلى ذكر تلك الفتاة التى تحدثت فيه، التى لم يسمع الفتى عنها قبل يومه ذاك، وقد سأله مدير الجريدة عما قالت الفتاة فلم يحسن ردا، وإنما لجلج فى القول، وأثنى الأستاذ على مى، وأنبأ الفتى بأنه سيقدمه إليها فى يوم قريب».
ابتهج «حسين» لوعد أستاذه، وظل يرقب تنفيذ الوعد، ومضت أياما وأشهر، وحصل من الجامعة على درجة الدكتوراه عن أبى العلاء، وأعطاها لأستاذه فقرأها ورضى عنها، ولكنه لم يردها إليه، وقال له: «سترد رسالتك إليك بعد أيام، لأن الآنسة مى طلبت أن تقرأها»، ولما سمع ذكر مى بدا عليه شىء من وجوم، و«كأن الأستاذ لاحظ ذلك فذكر وعده القديم، وقال للفتى فى رفق: ألم أعدك بتقديمك إليها، قال الفتى: أكاد أذكر ذلك، قال الأستاذ: فألقنى مساء الثلاثاء فسنزورها معا».
فى مساء الثلاثاء ذهب حسين ويعبر عن دهشته: «رأى الفتى نفسه لأول مرة فى حياته فى صالون فتاة تستقبل الزائرين من الرجال، حفية بهم، معاتبة لهم فى رشاقة أى رشاقة، وفى ظرف أى ظرف، وفى حديث عذب يخلب القلوب ويستأثر بالألباب، وطال المجلس وكثر الزائرون، ودارت أكواب الشاى والفتى فى مكانة لا يكاد يحس من ذلك شيئا، قد ملك الوهم والوجل عليه أمره كله فهو لم يشهد مثل هذا المجلس قط، وليس له عهد بمثل ما يجرى فى مثل هذه المجالس من المراسم ولا يما يتبع فيها من التقاليد والعادات، فهو منكر نفسه، منكر من حوله وما حوله، إلا شخصين اثنين هما الأستاذ لطفى السيد والآنسة مى».
انصرف الزائرون جميعا، ويذكر حسين: «خلا للأستاذ وتلميذه وجه مى، فخاضت مع الأستاذ فى بعض الحديث، وأثنت للفتى على رسالته فى أبى العلاء، فأغرق فى الثناء، واستحيا الفتى شيئا، ولم يحسن أن يشكر لها ثناءها، ولكن الأستاذ يطلب إلى الفتاة أن تقرأ عليه مقالها، فتتردد الفتاة شيئا، ثم تقدم بعد أن تعلن إلى الفتى أنها تقرأ على الأستاذ هذا المقال، لأنه هو الذى يعلمها العربية ويعلمها الكتابة، قال الفتى فى صوت ولفظ مجمجم: كما يعلمنى أنا، قالت مى: فنحن إذا زميلان، وقرأت المقال، وكان عنوانه «وكنت فى ذلك المساء هلالا»، وسحر الفتى ورضى الأستاذ، وانصرفا بعد حين وفى نفس الفتى من الصوت ومما قرأ شىء كثيرا».