لطالما كان الاقتصاد محركا للصراعات عبر التاريخ، فلم تكن مسألة الاستعمار بأكملها أكثر من حرب اقتصادية شنتها الدول الأوروبية القوية على الدول الفقيرة، من أجل الاستيلاء على خيراتها، ولعل أبرز مثال على ذلك هو استعمار بلجيكا للكونغو فى الفترة ما بين 1901 و1962، وهو واحد من أقسى أنواع الاستعمار بشاعة، حيث راح ضحيته 10 ملايين شخص، ولم يكن الهدف وراء كل هذا سوى الاستيلاء على "المطاط" الذى كان للتو قد شاع استخدامه فى "العجلات المطاطية" أو "الكاوتشوك" فأجبرت الحكومة السكان على أن يعطى كل ساكن من أبناء الكونغو ما بين 6 إلى 9 لتر من المطاط كل أسبوعين، وإلا فمصيره اعتقال نساء بيته وأطفاله وقطع أياديهم.
وفى المقابل فقد عرفت الشعوب المستعمرة أيضا الحرب الاقتصادية على طريقتها، وكثيرا ما طرحت أفكار محاربة الاستعمار عن طريق مقاطعته، وأشهر أنواع هذه المقاومة هو بالتأكيد "مسيرة الملح"، حيث قاد غاندى حركة عصيان ضخمة لإنتاج الملح فى الهند لكسر قرار بريطانيا بعدم إنتاج الملح فى الهند، وقاد غاندى مسيرة من مئات الآلاف من المواطنين الهنود إلى المحيط الهندى، حيث قطع ومن معه مسافة 250 ميل تقريبا، لمدة 26 يوما من أجل الوصول إلى الشاطئ وإنتاج الملح بنفسه بدلا من الملح الإنجليزى.
لكن ومع تطورات الحضارة ونهاية الاستعمار، وزيادة حركة التجارة بين الدول، تعود من جديد "الحروب التجارية" بين الدول، لكن هذه المرة بطريقة حديثة، وسلاحها ليس "الملح" أو "المطاط" بل "الجمارك".
- ما هى الحرب التجارية؟
ببساطة شديدة، حين يعجز المنتج المحلى لدولة ما أن ينافس المنتج المستورد رخيص الثمن، يؤدى ذلك فى النهاية إلى إفلاس الصناع المحليين وفقدان العمال المحليين لوظائفهم، فتلجأ الدولة المستوردة إلى فرض "رسوم أو جمارك" حمائية على واردات هذه الدولة، هنا تجد الدولة المصدرة نفسها توقفت عن التصدير وتوقفت مصانعها وانتقلت المشكلة إليها، ولكن لأن التجارة العالمية ليست قائمة على منتج واحد، فإن بإمكانها أن ترد على الدولة التى وضعت قيودا على صادراتها، بوضع قيود هى الأخرى على وارداتها، فتنقل لها المشكلة فى قطاع آخر. إذا قرر الجانبين تبادل القيود على العديد من المنتجات، نكون فى هذه اللحظة أمام حرب تجارية واسعة وموجعة تستهدف الصناعات.
هذا بالضبط ما أراد دونالد ترامب أن يشنه فى مارس الماضى، وما تراجع عنه أيضا فى إبريل الجارى، فلماذا أعلن ترامب الحرب ولماذا تراجع عنها؟، هذا ما نشرحه هنا؟
- كيف بدأت الحرب ؟
يمكن أن نفهم كيف بدأ الأمر بالعودة إلى حقبة الرئيس الأسبق باراك أوباما، والذى اتخذ من سياسة اقتصادية تهدف تحجيم علاقات التنين الصينى الاقتصادية بدول الجوار عبر توقيع اتفاقية "الشراكة عبر المحيط الهادئ" والتى تشجع التجارة بين 11 دولة آسيوية وشرق أفريقية واستراليا واليابان والولايات المتحدة الأمريكية عن طريق تخفيض التعريفات الجمركية بين البلدين، وهذه الدول تشكل حوالى 40% من اقتصاد العالم، وكذلك وقع أوباما واتفاقية "الشراكة عبر المحيط الأطلنطى" لتسهيل التجارة بين الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة الأمريكية.
وفى منتصف عام 2016 إبان الحملة الانتخابية لدونالد ترامب المرشح الرئاسى آنذاك، إذ أعلن أن أول قرار سيتخذه فى البيت الابيض هو الانسحاب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهو ما حدث فعلا فى 23 يناير 2017 أول أيامه فى البيت الأبيض، ورأى ترامب أن إعادة القيود سيعنى ازدهارا للعامل الأمريكى ورواجا محليا للمنتجات الأمريكية فى الداخل بدلا من بديلاتها الآسيوية وألأفريقية، وفى نفس الوقت بدأ ترامب خطوات لإعادة التفاوض حول اتفاقية التجارة بين دول أمريكا الشمالية "نافاتا" والتى ترفع العديد من القيود الجمركية بين كندا والولايات المتحدة والمكسيك.
وكان أكبر من واجهوا هجوما وانتقادا من المرشح وقتها دونالد ترامب هو الصين، حيث وصف ترامب خلال تجمع انتخابى، الصين بأنها البلد المسؤول عن أكبر عملية سطو فى تاريخ العالم، متهما إياها بأنها تتلاعب بعملتها وتخفض ثمنها لكى تتمكن من المنافسة، قائلا إنه لا يمكن السماح للصين بالاستمرار فى "اغتصاب الولايات المتحدة الأمريكية".
الولايات المتحدة تعانى أزمة مستمرة، وهى ارتفاع عجز الميزان التجارى الخاص بها، حيث باتت القوة الاقتصادية الأكبر عالميا مستوردا أكثر منها مصدرا، ليصبح العجز فى يناير الماضى حسب بيانات البنك الفيدرالى الأمريكى 56.6 مليار دولار، بمعنى أن الولايات المتحدة الأمريكية استوردت أكثر مما صدرت بالقيمة الموضحة، والمشكلة الأكبر أن عجز الميزان التجارى الأمريكى لا يتناقص، بل يتجه للزيادة كل عام، إذ كان فى يناير السابق له أقل بنسبة 16%. كما أن ترامب يواجه مشكلة أخرى أكبر أمام التنين الصينى الذى يتوسع اقتصاده، ليبلغ أكبر مصدر للعالم بقيمة 2.2 تريليون دولار من الصادرات، خمسها تقريبا أو 20% منها يذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
ويعتقد ترامب أن وضع قيود على الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة الأمريكية سيسهم فى تنشيط الاقتصاد الداخلى عبر التوجه لشراء المنتج المحلى الذى سيكون فى هذه اللحظة أرخص سعرا من نظيره الصينى المثقل بقيمة الجمارك، خاصة فى ظل أنه ومن الناحية الأخرى فإن إجمالى صادرات الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصين لا تزيد عن 130 مليار دولار فى حين أن وارداتها من الصين تبلغ 506 مليارات دولار.
- كيف أشعل ترامب الحرب؟
اشعل ترامب الحرب بقراره فى مارس الماضى بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على واردات الصلب، و10% على واردات الألومونيوم، وفى اثناء توقيعه على القرار قال ترامب إن إغراق الولايات المتحدة "اعتداء على بلدنا"، قائلا إذا كنتم لا تريدون ان تدفعوا الضرائب فعليكم أن تأتوا بالمصانع إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن ترامب استثنى كندا والمكسيك من القرار.
القرار الذى اتخذه ترامب يضرب عددا كبيرا من الدول، فى مختلف أنحاء العالم، فبحسب بيانات وزارة التجارة الأمريكية، فإن البرازيل أول المتضررين والتى تبلغ صادراتها من الصلب سنويا 3 مليارات دولار، ثم تأتى كوريا الجنوبية بحجم صادرات 2.8 مليار دولار من الصلب، ثم روسيا بحجم 2.7 مليار دولار صادرات، واليابان بـ 1.6 مليار دولار ، ثم ألمانيا بحجم 1.5 مليار دولار، وبعدها تركيا بحجم 1.2 مليار دولار، ثم تايوان بحجم 1.2 مليار دولار، وجنوب أفريقيا بحجم 982 مليون دولار، أما أكبر المصدرين للصلب للولايات المتحدة فهى كندا الذى استثناها قرار ترامب وتبلغ صادراتها للولايات المتحدة من الصلب ما قيمته 5.2 مليار دولار.
وبالنسبة للألومونيوم فإن كندا أكبر مصدر للألومونيوم قد استثناها من القرار، حيث تبلغ صادراتها ما قيمته 7 مليارات دولار، وهو تقريبا ما يوازى 40% من حجم استيراد الولايات المتحدة من الألومونيوم، وفى المرتبة الثانية وبعيدا جدا تأتى الصين حيث تبلغ صادراتها إلى الولايات المتحدة من الألومونيوم 1.6 مليار دولار ، ثم روسيا بقيمة صادرات 1.6 مليار دولار، وبعدها الإمارات بـ 1.4 مليار دولار، والبحرين بقيمة 602 مليون دولار، وتحل ألمانيا والأرجنتين تاليا بقيمة تعادلة 392 مليون دولار.
قائمة العشر صفحات الأوروبية
ردت أوروبا على الفور بنشر قائمة من 10 صفحات، تحتوى المئات من المنتجات الأمريكية التى تغرق الأسواق الأوربية معلنة أنها ستفرض رسوم جمركية على هذه الواردات، ومنها المواد الغذائية والتبغ، والملابس والأحذية والدراجات النارية وغيرها، وأعلن الاتحاد الأوربى أنه سيتخذ تدابير مضادة.
وأمام الغضب الأوربى العارم، أضطر ترامب إلى التراجع فى شهر مارس، حيث أعلن استثناء كل من الاتحاد الأوربى والأرجنتين والبرازيل واستراليا وكوريا الجنوبية، وفى جلسة فى مجلس الشيوخ الأمريكى أعلن الممثل التجارى الأمريكى روبرت لاتيرز أن المستهدف من الأمر هو الصين!
فى آواخر مارس وجه ترامب مدفعية حربه التجارية إلى الصين، وأعلن عن فرض تعريفات جمركية وقيوم استثمارية على الصين بمليارات الدولارات، وكلف مكتب الممثل التجارى للولايات المتحدة الأمريكية بوضع قائمة بالمنتجات الصينية التى سيتم فرض القيود على استيرادها، ووقع ترامب على مذكرة بالأمر التنفيذى، مستهدفا رسوم تجارية بقيمة 60 مليار دولار، ضمت أسماء 1300 نوع من البضائع مستهدفة من الرسوم.
ورفع ترامب أيضا من لهجته بالتهديد باتخاذ عقوبات اقتصادية ضد الصين بتهمة انتهاكها الملكية الفكرية وسرقة التكنولوجيا من الشركات الأمريكية، وكذلك تقديم شكوى إلى منظمة التجارة العالمية ضد الصين.
- كيف رد التنين الصينى على قرارات ترامب ؟
الرد الصينى لم يتأخر كثيرا، فى اليوم التالى وضعت الصين تعريفات جمركية تصل إلى 25% على 128 منتجا أمريكيا، من بينها اللحوم المجمدة والخمور والفواكه والمكسرات، وقالت وكالة الأنباء الصينية الرسمية، نقلا عن مسئولين صينيين إن هذه الخطوة هدفت فى الأساس إلى حماية المصالح الصينية وتعويض خسائر فرض رسوم جمركية أمريكية على صادراتها، إلا أن الصين أعلنت عدم رغبتها فى خوض حرب تجارية، لكنها لن تقف مكتوفة الأيدى أمام أى قرارات تضر باقتصادها.
-لماذا وضع العالم يده على قلبه فى الحرب التجارية وماذا تذكر؟
وضع العالم يده على قلبه، فقد أعاد ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية من فرض رسوم على الواردات، والإعلانات الأوربية الصينية فى المقابل، إلى الأذهان ما حدث عام 1930، حين حاولت الولايات المتحدة الأمريكية السيطرة على الأزمة المالية لديها فوضعت قيودا كبيرة على الواردات فيما عرف باسم قانون "سموت هولى" حتى أضحت الحدود الأمريكية شبه مغلقة أمام الواردات من الخارج على أمل أن يعيد ذلك إلى المصانع الأمريكية العمل من جديد، والسيطرة على الكساد الذى كان قد بدأ لتوه.
لكن لا أحد يفرض قيودا على واردات دولة دون أن تقوم الدولة الأخرى بفرض قيود فى المقابل، فكانت النتيجة الكارثية، انهار القطاع الزراعى الأمريكى أولا، وتشرد عشرات الآلاف من العاملين فى قطاع الزراعة، ثم سريعا وصل الأمر إلى الصناعة بانخفاض التجارة الخارجية الأمريكية، وسريعا تحولت الأزمة المالية الأمريكية إلى أزمة عالمية، حيث انهارت وبسبب القيود 65% تقريبا من تجارة العالم.
وصل الكساد العالمى إلى ذروته لترتفع نسبة البطالة فى الولايات المتحدة الأمريكية إلى 25% أما هؤلاء الذين احتفظوا بوظائفهم فتم تخفيض أجورهم بمتوسط 40%، وتراجع الناتج القومى من الاقتصاد الامريكى من 105 مليار دولار، إلى 55 مليار دولار. ورغم أن المؤرخين يقولون أن العالم تخلص من الكساد الكبير بحلول عام 1932، والفضل يعود إلى القرارات التى اتخذها الرئيس الأمريكى روزفلت، لكن الاقتصاد لم يعد إلى حالة التشغيل الكاملة كما كان قبل الأزمة إلا بحلول عام 1939.
ويمكننا أن نرصد هذا الفزع العالمى فى الخبر الذى حملته وكالة بلومبرج يوم 23 مارس، والتى أكدت فيه أن أغنياء العالم يفقدون بالمتوسط 71 مليار دولار كل يوم مع موجة هبوط البورصات العالمية بسبب مخاوف الحرب التجارية، شخص مثل "وارين بافيت" رجل الأعمال الأمريكى الشهير تراجعت ثروته بمقدار 3 مليار دولار بسبب هذه المخاوف، على مقياس بلومبرج للمليارديرات والذى يقيس ثروات 500 ملياردير حول العالم.
انهارت بورصة طوكيو بنسبة 4% خلال جلسة واحدة، وكذلك بورصة شنغهاى التى فقدت 3.27% من قيمة أسهمها، وخسرت بورصة هونج كونج 3%، وهبطت بورصة وول ستريت بنسبة 1%،الأمر وصل حتى بورصات الخليج فهبطت بورصة دبى بنسبة 0.17% وبورصة البحرين بنسبة 0.41%، كل هذا كان بفعل المخاوف لحرب لم تطلق رصاصتها الأولى بعد، وهو ما يذكر بالمقولة الاقتصادية الشهيرة أنه إذا "عطس" اقتصاد الولايات المتحدة أصيبت بقية اقتصادات العالم بالالتهاب الرئوى.
صندوق النقد الدولى بدوره أبدى فزعه على لسان مديرته كريستين لاجارد، التى قالت إن هذه الحرب ستكون ذات تأثير خطير للغاية على الاقتصاد العالمى، وطلبت من الرئيس الأمريكى دونالد ترامب التراجع.
- هل تفيد الحرب التجارية المواطنين فعلا ؟
لكن فى المقابل هل تفيد هذه الحروب التجارية المواطن الأمريكى فعلا؟، الكثير من المحللين ذكر بما حدث فى عهد أوباما حينما رفع الضرائب على واردات إطارات السيارات من الصين لحماية الصناعة المحلية، لكن فى المقابل انعكس هذا على القدرة الشرائية للمواطن الأمريكى، الذى لم يجد الإطار الصينى الرخيص موجودا فأضطر إلى شراء الإطار الصينى باهظ الثمن مما حد من قدرته على شراء أشياء أخرى، وفى النهاية فإنه وبحسب معهد بيترسون للاقتصاد الدولى، فإن ما فعله أوباما نجح بالفعل فى إنقاذ وظائف العاملين فى المطاط عبر قراره هذا، لكن فى المقابل فإن ضعف هذا العدد من العاملين فى قطاع مبيعات التجزئة فقدوا وظائفهم كانعكاس لهذا القرار.
- كيف هدأت الحرب ؟
لا جديد يتراجع ترامب من جديد، خطوة للخلف، يدرك جيدا أن لا أحد يكسب فى الحروب التجارية فهى الحرب التى يخسرها الجميع، وزير خزانته ستيفن منوشين يقول فى بداية إبريل :"لسنا أمام أى حرب تجارية"، ومدير مجلس الاقتصاد الوطنى يقول :"نحن راغبون فى مواصلة المفاوضات مع الصين، نحن راغبون فى الحوار"، أما مستشار ترامب الاقتصادى "بيتر نافارو" فيعترف بأن التهديدات الأمريكية الموجهة للصين جادة وجوفاء فى نفس الوقت.
يأتى الرئيس الصينى ليطفئ نار الحرب التى لم تكن قد اشتعلت بعد فيقول فى كلمة له إن سيقوم بتخفيض كبير للرسوم الأجنبية المفروضة على السيارات الأجنبية، ووعد بتقليل القيود المفروضة على وجود رأس مالى أجنبى فى الشركات الصينية.
التقط ترامب طرف الخيط ليرد عبر تويتر بقوله : "سنبقى أنا والرئيس الصيني بينغ صديقين حميمين مهما بلغت حدة صراعنا التجاري. ستقوم الصين برفع الحواجز التجارية نظرا لما في ذلك من مصلحة لكلينا. وفي المستقبل، سنصل إلى أرضية توافق بشأن حماية الملكية الفكرية. فكلا البلدين يطمحان إلى مستقبل أفضل". وبهذا تنتهى حرب ترامب التجارية دون أن تبدأ حتى، يتراجع الجميع خطوة للوراء، ويأخذ رجال الأعمال والمواطن الأمريكى نفسا عميقا.