كان من المفروض أن ترسو الباخرة التى تحمل ملك مصر الجديد فاروق فى بورسعيد، لكن بريطانيا التى تحتل مصر أمرت بأن ترسو فى الإسكندرية، مساء يوم 5 مايو، «مثل هذا اليوم» عام 1936 كنوع من المجاملة، حسبما تؤكد الدكتورة لطيفة سالم، فى كتابها «فاروق وسقوط الملكية فى مصر 1936-1952» عن «مكتبة مدبولى- القاهرة».
وصلت الباخرة من لندن، وجاء فاروق بعد وفاة والده الملك فؤاد يوم 28 أبريل 1936، وتؤكد «سالم» أنه عقب الوفاة مباشرة اجتمع مجلس الوزراء لمدة عشر ساعات متوالية، وصدرت ثلاثة بيانات، البيان الأول: المناداة بفاروق ملكًا على مصر، والثانى: ممارسة مجلس الوزراء للسلطات الدستورية للملك لحين تشكيل مجلس وصاية، والثالث: إعلان الحداد لمدة ثلاثة أشهر.
كان فاروق فى بريطانيا منذ 18 أكتوبر 1935 لاستكمال تعليمه «مواليد 11 فبراير 1920»، ووليًا للعهد فى نفس الوقت، وكان ذلك حسب «سالم»: «بمقتضى أمر أصدره فؤاد فى 13 أبريل 1922، بوضع نظام لتوارث عرش المملكة المصرية، ونص على أن تنتقل ولاية الملك من صاحب العرش إلى أكبر أبنائه ثم أكبر أبناء ذلك الابن، وهكذا طبقة بعد طبقة، وانتهى إلى إثبات أو ولاية الملك من بعده لفاروق»، وأثناء غياب فاروق مرض والده وساءت صحته وتدهورت، وتؤكد «سالم»: «أيقن الجميع قرب نهايته، وأبلغ فاروق تليفونيًا بحالة أبيه، فواصل هو الآخر اتصاله للاطمئنان عليه، وتابع النشرات الطبية، واستقبل فؤاد رئيس وزرائه على ماهر باشا وتحدث معه فى أمرين، الأول أنه استعلم عما إذا كانت العلاقات مرضية مع دار المندوب السامى، والأمر الثانى أنه يريد عودة فاروق، وألحت الملكة نازلى «والدة فاروق» فى الاستعجال.
غادر فاروق لندن يوم 30 أبريل، أى بعد الوفاة بيومين، وتؤكد سالم: «أناب الأمير محمد على ورئيس الوزراء فى تشييع جنازة والده»، وأصدرت المحاكم أحكامها باسم الملك الجديد، كما دعا له فى صلاة الجمعة بالمساجد، وتردد الدعاء فى الكاتدرائيات، وصدرت طوابع البريد التى تحمل صورته، واستغرقت رحلة العودة حوالى أسبوع، وبالطبع راودت نفس فاروق الكثير من الخواطر، فقد كان يشعر فى أعماقه بأنه فشل فى طريقه التعليمى، وبالفعل فإنه صرح بأسفه فى هذا الشأن لرئيس وزرائه عند استقبال الأخير له بالإسكندرية، وترسب ذلك فى نفسه، ولم يعمل على تفادى هذا النقص رغم الظروف التى هيئت له، وإنما انعكس ذلك على طريقته فى محاولة إيهام الآخرين بأنه يعلم كل شىء».
رست الباخرة بفاروق فى الإسكندرية مساء يوم 5 مايو 1936، وتؤكد سالم: «فى اليوم التالى وطأت قدما الملك الجديد أرض مصر، وتصف حالته نقلا عن «الأهرام» فى «7 مايو 1936»: «ظهرت على وجهه مسحة من الكآبة لفقدان أبيه لكنها سرعان ما توارت أمام مستقبليه، وتصدرهم على ماهر، وصعد فاروق إلى قاعة العرش بقصر رأس التين، وتبوأ أريكة الملك، ثم رافقه رئيس الوزراء فى المركبة الملكية المكشوفة إلى محطة مصر، حيث القطار الذى سينقل الملك إلى عاصمة ملكه».. كما يصف أحمد بهاء الدين تلك اللحظات فى كتابه «فاروق ملكا» عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة» قائلا: «على رصيف قصر رأس التين، نزل الملك فاروق قادمًا من إنجلترا ليجلس على العرش، ورآه الناس يافعًا فى السادسة عشرة من عمره، نحيفًا، طويلًا، يعلو وجهه الوديع مزيج من البشاشة والحزن، وعلى الرصيف وقف رجال القصر القدامى يستقبلون سيدهم الجديد، وعلى رأسهم رجل قصير القامة، استبد به التأثر، ولكنه ظل كما عرفه الناس، بالجرأة التى تلمع فى عينيه، والعزم المتجمد فى ذقنه، والمزاج العصبى المرتش فى أنفه القصير، ذلك كبير وزراء الملك الجديد.. الرجل الذى سيصبح والده الأول فى السياسة المصرية:على ماهر».
تذكر «سالم»: «رافقه رئيس الوزراء فى المركبة الملكية المكشوفة إلى محطة مصر، حيث القطار الذى سينقل الملك إلى عاصمة ملكه، ومثل استقبال الشعب لفاروق بالإسكندرية، وعلى طول الطريق الزراعى للقاهرة وحتى القصر، صورة حية عبرت عن إحساس ينم عن صدق المشاعر ونقائها وإخلاصها»، ويضعنا «بهاء الدين» أمام حالة تصنيع صورة جديدة للملك الجديد وكانت«كحكايات الأمهات الطيبات، فهذا هو رائده أحمد حسنين، ينشر على مندوبى الصحف جعبة مليئة بالقصص عن ديمقراطية فاروق، وذلك بالاتفاق مع الملكة والدته، وأقبل المصريون الذين يقبلون على تأليه السادة يلتهمون ماتنشره الصحف عن ذكاء فاروق، ورقة قلبه، وسرعة خاطره، وسعة إطلاعه، وتخصصه فى الآثار القديمة، ومدرسوه القدامى يؤكدون ذلك كله فى أحاديثهم، حتى مرضعته، تلك التركية العجوز «عائشة جلشان لا تنساها الصحف فهى تدلى بحديث عن العبقرية التى لاحظتها على الطفل الصغير، وهو مايزال على صدرها صغيرًا».