"مصر ستبقى ممتنة لإسهاماته الوطنية".. بهذه الكلمات نعت رئاسة الجمهورية المصرية، وعدد من الأحزاب والسياسين والشخصيات العامة، السياسى الكبير "خالد محى الدين" أحد الضباط الأحرار، وعضو مجلس الشعب المصرى السابق، مؤسس حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى الذى وافته المنية اليوم.
البدايات.. " نشأة دينية"
ووفقًا لمذاكرات الراحل خالد محى الدين الصادرة عام 1922، تحت عنوان "الآن أتكلم" فإن النشأة كانت دينية، إذ يقول عن بيت طفولته: "بيت شرقى ساحر، فسقية فى منتصف الحديقة الواسعة المليئة بالأشجار والورود والتمر حنة، لم يكن بيتا عاديا، إنه تكية السادة النقشبندية، هنا قبر الجد الأكبر لأمى الشيخ" محمد عاشق" وهنا أيضًا مسجده، ودراويش الطريقة النقشبندة يشغلون الدور الأول من التكية، وأنا ووالدتى وحدى الشيخ عثمان خالد، شيخ الطريقة وناظر الوقف نشغل الدور الثاني."
وأشار محى الدين إلى أنه واصل مرحلة طفولته مع الطريقة النقشبندية، التى اجتذبته فى طريق التعبد مع الدروايش إلى أن اعتذر عن تولى المشيخة، بعد انضمامه إلى صفوف الجيش المصرى، ليتركها ليتولها ابن خالته بعد وفاة جده عثمان خالد.
الانضمام إلى سلاح الفرسان
فى الفترة ما بين عام 1938 وحتى سبتمبر 1940 تخرج خالد محى الدين من الكلية الحربية برتبة ملازم ثان وهو فى الثامنة عشرة، ليعمل فى الآلآى الأول دبابات " سلاح الفرسان"، مشيرًا إلى أن الحادث الفاصل فى حياته وحياة الجيش المصرى جاء عقب حادث 4 فبراير بعدما حاصر الانجليز قصر عابدين بالدبابات وقبضوا على ضابط الحرس الملكي أحمد صالح حسني عندما تصدي لهم ودخلوا بالقوة، وهناك أملى اللورد كليرن إرادة بريطانيا على الملك وأمر بدعوة النحاس باشا لتشكيل وزارة وفدية، ويلفت محي الدين إلى أن الحادث كان نقطة تحول فى حياته إذ أبلغه أحد زملائه بأن هناك اجتماعا فى نادى الضباط وهناك رأى عثمان فوزي وعديدًا ممن يعرفهم، وآخرين من ضباط كبار وصغار.
ويصف محى الدين اللقاء بأنه كان عاصفًا وغاضبًا وخزينًا وتداول فيه الضباط فكرة تنظيم مسيرة إلى قصر عابدين لإعلان للملك برفض ما حدث.
تنظيم ايسكرا الشيوعي
تأتي المحطة الثالثة فى حياة محى الدين عام 1947 خلال لقاءه بأحمد فؤاد الذى عرفه بطبيعة الحال على التنظيم الشيوعي، فى إطار السيولة السياسية آنذاك، وتوحيد هدف طرد الانجليز من مصر، ويقول محى عن ذلك اللقاء: حضرت اجتماعا لخلية شيوعية فى منزل فى حى السكاكينى وأظن أنه فى شارع الشيخ قمر، مجموعة من الشباب ليس فيهم أى عسكريين، وفيما أذكر كان أحدهم موظفًا فى شركة سكك حديد الدلتا، وكان المسئول واسمه " الصحن" شابا لم يستطع أن يكتسب لا ثقتى ولا رغبتى فى مواصلة الالتقاء معه، كانت الماركسية مشوشة فى رأسه بصوره غير عادية، ولاشك أنه كان حديث العهد بها، وأنها اختلطت فى ذهنه بأشياء عديدة منها الإلحاد مثلا وأشياء من هذا القبيل.
ويقول محى: "تجربة الانضمام إلى التنظيم الشيوعى التى اخذت فتره قليلة جدًا من حياته فادته فيما يمكن تسميته بالقراءة المنهجية المدققة، فقد كان يتسلم منهم أحد الكتب الماركسية التى يُطلب منه قراءتها وتلخيصها وعرضها لمناقشته فى الخلية، وبهذا تحول الفهم المتعجل للاشتراكية عند محي الدين إلى فهم أكثر تدقيقًا."
ويشير محي الدين إلى النقطة التى باعدت بينه وبين التنظيم بشكل لا رجعه فيه، وهى موافقته على قرار تقسيم فلسطين الذى كان يقف فيه موقف الضد.
الانضمام للخلية الأولى للضباط الأحرار
وفقًا لرواية خالد محى الدين التى جاءت فى مذكراته فإنه كان مشاركًا فى الخلية الأولى، الاجتماع الأول للضباط الأحرار الذى عقد فى النصف الثانى من عام 1949 ببيت جمال عبد الناصر.
ويقول محي الدين عن الحضور فى اللقاء الأول للضباط الأحرار هم مصطفى نصير، وسعد عبد الحفيظ، وعبد الفتاح أبو الفضل، وعبد الحميد كفافى، وآخرين.. وقد أصدرت هذه المجموعة عده منشورات وانتهى الأمر بالقبض على عدد منهم، وبدأت فى الجيش حملة واسعة لجمع تبرعات لأسر الضباط المعتقلين وكانت حملة التضامن هذه أحد العوامل المشجعة والمعبرة عن وجود حالة ثورية ووطنية فى صفوف الضباط.
دوره فى ثوره 52
وروى خالد محي الدين دوره فى تحرك الضباط الأحرار 23 يوليو 52 قائلا:"كانت ابنتي سميحة مريضة، وكانت تحتاج إلى رعاية خاصة وإلى التردد على الطبيب، ولم أكن أمتلك من الوقت ما يكفى لذلك، وبعد الغداء وبلا مقدمات قلت لسمير – (زوجته) –: " أنا سأخرج فى الساعة الثامنة وإذا لم أعد فى الصباح يكون شيئًا خطيرا قد حدث، فإما سأموت أو سأعود منتصرًا"
ويضيف:"خرجت إلى بيت ثروت عكاشة حيث تناولنا عشاءنا بهدوء ونزلنا فى التاسعة والنصف، ثروت توجه إلى قواته، واتجهت أنا إلى الكتيبة الميكانيكية .. ولأنها كانت كتيبة تحت الإنشاء فقد كان الضابط النوبتجى"باشجاويش " وكنت أنا ضابط عظيمم المنطقة.
ويتابع:"قبل أن أتحرك بقليل أتانى عثمان فوزى مسرعًا، وقال إن اللواء حشمت قائد اللواء المدرع قد حضر إلى السلاح، وإنه من الضرورى أن أتحرك دون انتظار لساعة الصفر.
وكان العساكر قد تم إيقاظهم فى الساعة العاشرة والنصف وجهزت اللوارى والأسلحة والذخيرة، وفيما أشعر بحيرة بسبب نقص الذخيرة، كان حسبن الشافعى يحقق وعده لى.. فى الساعة الحادية عشرة تقريبًا حضر الضابط ممدوح إسماعيل ومعه الذخيرة المطلوبة وقال بالإنجليزية حتى لا يُفهم الجنود: اللواء حشمت تم القبض عليه".
ويستطرد محى الدين: وشعرت باريتاح، وأحسست أن ثمة توفيقًا من الله يحل بنا وبحركتنا.. وأصدرت الأمر ..تحرك، وما أن سمعت صوت الموتورات حتى انتظمت معه دقات قلبى وكأنها تتحرك معه.. ومعها دقات قلوب أربعمائة جندي وهم قوتي التى أتحرك بها.
استقالته من مجلس قيادة الثورة ورفض عبد الناصر لها
جاءت فى استقالته خالد محي الدين : حضرة المحترم وكيل مجلس الثورة: أتشرف بتقديم استقالتي من عضوية مجلس الثورة، ولا أستطيع إزاء ذلك أن أؤدى خدمات لبلادى وللشعب المصرى العزيز علينا جميعًا مادمت باقبًا بهذا المجلس، لأنني قد فقدت القوى الدافعة على العمل، نتيجة أنني أرى أن أقل ما كنت تصبو إليه نفسى من أفكار ومبادئ لا أستطيع تنفيذها أو المساعدة على تنفيذها، بل وأرى الاختلاف والتباين بين رأي ورأي جميع الزملاء اعضاء مجلس قيادة الثورة.
وقد كانت سبب تلك الاستقالة وفق ما جاء فيها هو اعتراضه على تعديل قانون العمل الفردى الخاص بالفصل التعسفى أى الفصل بلا مبرر.
ويشير محي الدين إلى أنه كتب هذه الاستقالة كى يزيح عن كاهله عبئًا ثقيلا، ورفضها جمال عبد الناصر.
"نفيه خارج البلاد"
ظل تباين وجهات النظر يقف حائلا وفق رواية خالد محى الدين بينه وبين أعضاء مجلس قيادة الثورة للحد الذى وصلت فيه إلى طريق مسدود إذا يقول:" الحيقية أن أحداث مارس قد أثمرت نتائج مصيرية.. فلعلها أقنعت الإخوة فى مجلس الثورة إلى أمد طويل التمسك بالنظرية، وعندما قال عبد الناصر: اعتبر أن استقالتك مقبولة، كان يضع خطا فاصلا بيني وبين الزملاء، فلو أنه دعاني إلى الاجتماع مع المجلس وتناقشنا كنت سأتمسك بوجهة نظرى وسأحتفظ بها، وأواصل النضال من أجلها فى صفوفهم كما اعتدنا من قبل. لكن الزملاء كانوا قد حسموا أمرهم، وقرروا إما أن أكون معهم فى كل ما يرون وكل ما يقولون .. وإما أن أبعد. "
ويضيف باختصار .. لم أشعر ولو للحظة واحدة بذرة واحدة من الندم، وأنا أخلع عنى ثياب سلطة السيادة، وأصبح إنسانا عاديا يستعد كى يُحرم حتى من البقاء فى أرض وطنه.
لقاءه بعد الناصر بعد النفي
وفى الفصل الختامى لمذكرات خالد محى الدين سلط الضوء على اللقاء الذى جمعه بعد الناصر فى بيته إذ يقول أرسلت رسالة ثانية لعبد الناصر طالبا أن أعود إلى مصر، وقلت لها فيها: إن أشياء هامة قد تحققت، وأننا نلتقى على أشياء كثيرة، وأن معركته ضد الاستعمار، هى معركة كل الوطن، وكل الوطنيين، وأننى لا أجد مبررًا لبقائى فى الخارج.
وعقب ذلك كلم الرئيس عبد الناصر خالد محي الدين قائلا: تعالى فورًا، ثم أضاف: ازى أمين – يقصد ابنه- قلت: كويس، فقال: هاته معاك
ويشير محي الدين إلى أن عبد الناصر القى التحية وبدأ الحديث فى الشأن العام وسأله عن مشاريعه فقال الترشح بانتخابات مجلس الشعب، فطلب منه وفقًا ما جاء فى المذكرات: عايزك تشترى لى شوية كتب اشتراكية بمختلف مدارسها، واقترح عليه أن يعمل سفيرا فى تشيكوسلوفكيا فى بلد مهمة جدا له، وخاصة بالنسبة لصفقات الأسلحة، أو اقتراح بأن يصدر جريدة يسارية مسائية.
تأسيس حزب التجمع
وبعد عودته إلى مصر ترشح في انتخابات مجلس الأمة عن دائرة كفر شكر عام 1957 وفاز في تلك الانتخابات، ثم أسس أول جريدة مسائية وهي جريدة المساء. وشغل منصب أول رئيس للجنة الخاصة التي شكلها مجلس الأمة فى مطلع الستينيات لحل مشاكل أهالى النوبة أثناء التهجير، كما تولى رئاسة مجلس إدارة ورئاسة تحرير دار أخبار اليوم خلال عامى 1964 و1965، ليأسس بعد ذلك حزب التجمع عام 1970
اعتزالة الحياة السياسية
وخلال فترة حكم محمد أنور السادات اتهمه الرئيس بالعمالة لموسكو، وهي تهمة كانت رائجة فى تلك الآونة ضد اليساريين العرب في حقبتي السبعينيات والثمانينيات، وفي السنوات التى سبقت اعتزاله السياسى أبى المشاركة فى انتخابات رئاسية مزمعة فى مصر متخليًا بشكل طوعى عن قيادة حزب التجمع كوضع نموذج ديمقراطى لتداول السلطة فى الحياة السياسية المصرية.