منذ نعومة أظافره وتبدو عليه ملامح الذكاء والكياسة، وذاع صيت ذلك بين الناس داخل مدينته وخارجه، وأته الجميع من كل حدب وصوب يطلبون مشورته، ويلقون بين يديه ما يواجههم من مشكلات فى العلم والدين، أنه إياس ابن معاوية بن قرة المزنى.
ولد إياس فى نجد بشبه الجزيرة العربية، فى العام السادس والأربعون من الهجرة، وحفظ القرآن فى سن مبكرة، ثم انتقل مع أسرته إلى البصرة، وأتم علمه بدراسة علوم الفقه والحديث والتفسير على يد علماء المدينة، كما تعلم بها الكثير والكثير، وجاء توليه أمر القضاء بالبصرة فى عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز، حيث أتى به ولى العراق مع القاسم بن ربيعة الحارثى، وقال لهما أن الخليفة أمره بان يولى أحدهما قضاء البصرة فقال كلا منهما عن صاحبه هو أولى منه بهذا المنصب، فتجادلا كثيرا حتى يولى كلا منهما الآخر فى المنصب، حتى قال القاسم لـ"عدى" أيها الأمير لا تسل أحدا عنى ولا عنه فو الله الذى لا إله إلا هو أن إياسا أفقه منى فى دين الله،وأعلم بالقضاء فإن كنت كاذبا فى قسمى، فما يحل لك أن تولينى القضاء، وأنا أقترف الكذب، وإن كنت صادقا فى قسمى، فلا يجوز لك أن تعدل عن الفاضل إلى المفضول فالتفت إياس إلى الأمير وقال أيها الأمير إنك جئت برجل ودعوته إلى القضاء فأوقفته على شفير جهنم ولقد صح عن بريده أن النبى قال "القضاء ثلاثة إثنان فى النار وواحد فى الجنة "فنجا نفسه منها بيمين كاذبة لا يلبث أن يستغفر الله منها وينجو بنفسه مما يخاف فقال له عدى: إنما يفهم مثل فهمك هذا لجدير بالقضاء حرى به ثم ولاه قضاة البصرة.
كما أنه من بين المواقف التى دلت على فراسته حينما اختصم عنده رجلان حيث اشتكى أحدهما من أن الآخر استبدل ملابسه، حيث إن لون لباسه لونه أحمر ولون لباس الآخر أخضر فقال أحدهما: دخلت الحوض لأغتسل ووضعت قطيفتى، ثم جاء هذا، فوضع قطيفته تحت قطيفتى ثم دخل فاغتسل، فخرج قبلى وأخذ قطيفتى ثم خرجت فاتبعته، وحينما سألته لماذا أخذها فزعم أنها قطيفته، فسألك إياس: ألك بينة؟ فرد الرجل لا، فأحضر إياس مشطا، فسرح رأس هذا ورأس هذا، فخرج من رأس أحدهما صوف أحمر ومن رأس الآخر صوف أخضر، فقضى بالحمراء، للذى خرج من رأسه الصوف الأحمر، وبالخضراء للذى خرج من رأسه الصوف الأخضر.
ومن بين الوقائع التى أثارت جدلا كبيرا وقضى فيها إياس قضية المهلب بن القاسم الهلالى حيث كان يشرب الخمر وطلب من زوجته أن تشرب معه فرفضت، فوضع أمامها كأسا منه وأقسم عليها: أنها طالق بالثلاث أن لم تشربه، وحاول بعض النساء أن يحملنها على شربه لكنها رفضت، وكان فى البيت طير ينام على بيضه ليفقس فمر الطير بالقدح فكسره، فحمدت الله أن خلصها من ذلك الزوج الشرير وطلبت أهلها فحولوها إليهم ولكن "المهلب" كذب وقال لم أطلقها، وذهب والده إلى عدى بن أرطاة والى البصرة ليحكم فأمر الوالى بردها إليه، لكن المرأة لم ترض بالقرار، فخاصمت زوجها إلى "إياس" وشهد أربع من النسوة بما حدث، فحكم بوقوع الطلاق لأنه كان يرى أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد فى مجلس واحد يقع ثلاثا- وهو الرأى السائد فى الفقه على خلاف اجتهاد شيخ الإسلام ابن تيمية الذى يرى أنه لا يقع إلا طلقة واحدة رجعية، وقال لزوجها لئن قربتها لأرجمنك.
يقول الداعية أشرف سعد محمود أحد علماء الأزهر الشريف، إن حكم "إياس" الخاص بطلاق الزوجة التى رفضت شرب الخمر فى الرواية "صحيح موافق للشريعة الإسلامية" من جهتين أولهما لأنه طلاق معلق على شرط حيث قال لها الزوج الظالم إنها أن لم تشرب كأس الخمر فهى طالق ثلاثا فهذا طلاق معلق على شرط يقع عند وقوع الشرط عند جمهور الفقهاء.
وأضاف، أن الجهة الثانية فإن فلانة علق الطلاق ثلاثا فى مجلس واحد وهو واقع أيضا عند الجمهور ومن ثم فقد بانت من زوجته بينونة كبرى أى لا يحل له أن يراجعها حتى تنكح زوجا غيره أما اجتهاد الفقيه الحنبلى ابن تيمية رحمه الله تعالى فقد استحدث بعد ذلك لقرون كثيرة فى القرن الثامن الهجرى، ولم يكن موجودا فى عهد القاضى "إياس".
وتابع: السبب فيما ذهب إليه ابن تيمية، وقوع الناس وخاصة الجهال منهم فى كثرة تعليق الطلاق على أتفه الأسباب، ودون مبرر قوى وحتى دون نية إيقاع الطلاق نفسه، فإن كثيرا من الرجال قد يستعمل الطلاق المعلق لا بنية الطلاق، ولكن لغرض تهديد الزوجة، ومنعها من أمر ما كالخروج من المنزل، أو الذهاب فى مكان معين، ففرق ابن تيمية بين الطلاق المعلق الذى يريد صاحبه وينوى به التطليق حقا ويعزم على ذلك فقال بوقوعه فور وقوع الشرط، وأما الطلاق المعلق بنية التهديد فلم يقل بوقوعه بل اعتبره كاليمين يحتاج صاحبه أن يكفر كفارة اليمين، وهذا القول وإن لم يكن مشهورا قبل ذلك فإنه اعتمد وانتشر جدا فى الأزمان المتأخرة نظرا لتهاون الناس وتسرعهم فى أمر الطلاق وبهذا يفتى فى دور الإفتاء ولجان الفتوى حاليا والله اعلم.