نسير فى الحياة عبر رقعة كبيرة مقسمة بالتساوى إلى مربعات بعضها ناصع البياض، وبعضها قاتم سواده وعليها يقف البشر وفقا لقلوبهم، فمنا من منحه الله قلبًا أبيض وسيرة عطرة فوضعه التاريخ فى موضعه على الرقعة البيضاء، ومنا من تملك السواد قلبه، فكانت الرقعة السوداء مصيره، وبين كل هذا نسوة أثرن فى الحياة خيرًا وشرًا ووقفن داخل الرقعتين أو تنقلن بينهما، ومن خلال هذه السلسة نحاول النظر إلى سيرتهن نظرة أخرى دون الحكم على واحدة منهن أو التأثر بإيمانها أو كفرها، فقط تناول سيرتها كأنثى أثرت فى الحياة ولكم وحدكم الحكم.
«اقتلوا الزانية.. اقطعوا رأس الفساد.. أحرقوا جسدها المدنس.. قطعوا أوصالها وفرقوها فى البلاد.. حتى تأكلها الوحوش الضارية.. مزقوا جسدها ولا تجعلوا له شكلا ولا كيانا.. اقتلوها.. اذبحوها.. اسلخوها.. أحرقوها.. مزقوها».
كانت النداءات تتصاعد، تتداخل الأصوات، تمتزج اللعنات، كل كلمة تنزل عليها وكأنها سيف، كأنها بصقة من نار، كأنها حجر من جهنم، تتصاعد الصيحات وتتداخل حتى لا تفهم «زينب» ما يقال، يشرد ذهنها، فتتذكر تلك الأيام الخوالى، أيام كان النبيذ فيها يسيل كالأنهار، وكانت الضحكات تجرى على الوجوه كالسيل، فما الذى بدل النعيم بالجحيم، ومن الذى قلب حياتها رأسا على عقب؟ أهو الحظ أم هى اللعنة؟، تغمض عينيها محاولة التأمل واستيعاب الموقف ومعرفة أسبابه فيسبقها السيف على رقبتها، يقطعون رأسها ويفرقونه عن جسدها ويعلقونه على باب القلعة لتصبح عبرة لكل من خان وباع وفسق «هكذا ظنوا»، قصفوا رقبتها وسالت الدماء على الأرض، ارتاحت القلوب ورفعوا الرؤوس بعد أن غسلوا العار عن رجولتهم ووطنيتهم، أعدموا زينب البكرى حليفة المحتل الفرنسى وعشيقة نابليون بونابرت التى ارتمت فى أحضانه، وباعت الشرف والعرض والأرض.
لم يكن المشهد غريبا على زينب فقد عاشت مشهدا مماثلا له قبل ثلاث سنوات وتحديدا عام 1798 عام دخول الحملة الفرنسية إلى مصر حيث كانت تقف فى نفس المنزل «بيت والدها الشيخ خليل البكرى»، وشاهدت نفس الجمع من البشر بل وأكثر منهم يصيحون بصيحات مماثلة، يهتفون ضد نابليون بونابرت والاحتلال، ولم تفهم صاحبة الأثنى عشر عاما وقتها ما هو المحتل ولا طبيعة الثورة الشعبية التى ثارت ضده بقيادة شيوخ الأزهر، لم تعرف معنى المقاومة ودارت فى ذهنها الأسئلة، من هو نابليون؟ ما الذى أتى به مع جيشه العظيم إلى مصر، ولماذا يغضب منه المصريون ويقاومونه ويثورون ضده، وما هى الثورة أساسا؟ عقلها الصغير لا يدرك أيضا لماذا حرم والدها الشيخ خليل البكرى وهو من سلالة سيدنا أبى بكر الصديق من لقب نقيب الأشراف، لماذا فضلت عائلتة التى يرث فيها الإخوة والأنباء واحدا تلو الآخر التنازل عن اللقب والمنصب الرفيع لصالح عمر مكرم الثانى بعد وفاة عمها الأكبر محمد توفيق بن على بن محمد البكرى.
تتابع زينب ما يدور حولها، فتشاهد نابليون يحاول إخماد الثورة الشعبية فى مصر عن طريق رجال الدين، فحاول كسب ود المشايخ وثقتهم وقرر ضم عدد منهم للمجلس السياسى الخاص به، بحجة احترامه للدين الإسلامى وضرورة تمثيله فى مجلس الحكم الذى يدير شؤون بلد مسلم، لكنه فى الحقيقة أراد كسبهم فى صفه والتحكم فى الشعب من خلالهم، وتحالف خليل البكرى مع بونابرت فرصته الذهبية لتحقيق الحلم الذى ظل يراوده، والحصول على لقب نقيب الأشراف وبالفعل تم التحالف الكبير بين خليل البكرى والد زينب وبين نابليون بونابرت، وبعد أن منح بونابرت لقب نقيب الأشراف لخليل البكرى، بصفة الأول والى البلاد، فتح الثانى بيته لنابليون وجنوده، جهز لهم الليالى ليلة تلو الأخرى، فيها ما لذ وطاب للنفوس من خمر وسكر ورقص وعهر، ولم يكن هذا الموقف غريبا على السيد خليل البكرى المعروف بحبه للغلمان والذى أشيع أن زوجته هجرته لهذا السبب، وهو الأمر الذى يفسر لماذا حرمته العائلة من لقب نقيب الأشراف، فحول منزله لخمارة يمضى فيها نابليون ورجاله الليالى الماجنة ووصل الأمر إلى أن خليل خصص غرفة فى منزله لنابليون يمضى فيها لياليه، ووسط كل هؤلاء تقف زينب تشاهد، حتى صارت جزءا منها، وهو النمط الذى تشاهده يوميا فى بيتها.
حدث التحول الكبير فى حياة زينب بعلاقتها الشخصية مع نابليون بونابرت، ولبداية هذه العلاقة روايتان فى التاريخ، الأولى أن زينب ذهبت إلى بونابرت خلسة فى غرفته بمنزل والدها وطلبت منه مضاجعتها، وكان هذا بعلم والدها الذى طمع فيما هو أكثر من لقب نقيب الأشراف، فقد أراد أن يكون صهرا لوالى مصر، معتقدا أن نابليون سيطلب يد ابنته للزواج، وبعدها بدأت العلاقة بينهما وصارت عشيقته، بينما تقول رواية أخرى للمؤرخ الكبير عبدالرحمن الجبرتى فى كتابه «غرائب الآثار فى التراجم والأخبار»، إن الشيخ خليل البكرى قدم زينب بصحبة خمس فتيات مصريات أخريات لنابليون ليختار منهن عشيقة، فاختار بونابرت زينب، لأنها كانت أطولهم قامة وأكثرهم جمالا وكانت ممشوقة القوام، والأهم من ذلك أنها كانت تشبه جوزفين زوجة نابليون التى رفضت القدوم معه إلى مصر وكانت تخونه مع عشيق لها فى فرنسا، فلما وجد بونابرت الشبه بين زينب وجوزفين اختار زينب وكان هذا أيضا بعلم والدها ومباركته، ونهاية الروايتين كانت واحدة، فبعد فترة شعر نابليون بالملل من علاقته بزينب وأدرك أنها ليست محبوبته جوزفين، فقرر تقديمها لجنوده كهدية منه وتركها بين أحضانهم، ولم ينتفض والدها لذلك أو يحاول ردها عن هذا السلوك ولا حتى حمايتها من شرور البشر وشرور نفسها.
ظلت حياة زينب كما هى بعد أن خرج نابليون من مصر عام 1800، لكن الأحوال تبدلت بعدخروج الحملة الفرنسية من مصر عام 1801، حيث قرر الحاكم العثمانى التخلص من كل آثار الاحتلال وأعوانه، وبدأوا بزينب عشيقة نابليون، وبدلا من محاكمة والدها خليل البكرى وجد الشعب فى محاكمة الطفلة التى كانت تبلغ وقتها ستة عشر عاما الحل الأسلم، فدخلوا بيتها واتهموها بالفسق والخيانة والتحالف مع العدو الفرنسى ولم تكن نذالة والدها أمرا غريبا فى هذا الموقف فقد فدا نفسه بها، وأعلن تبرأه منها وأنها مسؤولة عن أفعالها وحكم عليها قبل أى أحد قائلا «اقصفوا رقبتها»، وهو ما تم بالفعل حيث صدر الحكم بإعدام زينب وفصل رقبتها وتعليقها على باب القلعة لتكون عبرة للآخرين، ونفذ الحكم وأصبحت زينب أول مقصوفة رقبة عرفها التاريخ المصرى، وفلت والدها من العقاب وأغمض التاريخ عينه عن كل جرم ارتكبه وظل يلاحق زينب بالعار، وخلد ذكراها على أنها فاسقة عاهرة خائنة باعت شرفها لنابليون دون أن يعترف أن والدها هو المذنب والمحرض والمسؤول الأول والأخير، فكل هذا لا يهم، المهم أن زينب المتهمة بالفسق والفجور قد ماتت وقصفت رقبتها وعلقت على باب القلعة وما دون ذلك لا يهم.