-اتهمها زوجها الأول بالزنا فأثبتت براءتها وهجرته وطالبت أهل قريش بقتل زوجها الثانى «أبوسفيان» لما شعرت بخوفه وخنوعه
نسير فى الحياة عبر رقعة كبيرة مقسمة بالتساوى إلى مربعات بعضها ناصع البياض وبعضها قاتم سوادها وعليها يقف البشر وفقا لقلوبهم، فمنا من منحه الله قلبا أبيض وسيرة عطرة فوضعه التاريخ فى موضعه على الرقعة البيضاء، ومنا من تملك السواد من قلبه فكانت الرقعة السوداء مصيره، وبين كل هذا نسوة أثرن فى الحياة خيرا وشرا ووقفن داخل الرقعتين أو تنقلن بينهما، ومن خلال هذه السلسة نحاول النظر إلى سيرتهن نظرة أخرى دون الحكم على واحدة منهن أو التأثر بإيمانها أو كفرها، فقط تناول سيرتها كأنثى أثرت فى الحياة ولكم وحدكم الحكم.
على قدر اعتزازنا بها وفخر الإسلام باتباعها الرسول ومبايعتها له بعد فتح مكة على قدر اشمئزازنا منها، فكيف لأنثى أن تسير بهذه القوة بين الجثث، تنتهك بمنتهى الراحة حرمة موتهم، تنظر إليهم برضا واطمئنان وكأن الدم السائل أنهار من عسل! ولا تكتفى بهذا، فتمثل بجثثهم، تقطع أنف هذا وتفصل رقبة هذا، وتدوس بقدمها على رأس هذا، وتفقع عين هذا وتقضم إذن هذا، حتى ترى جثة حمزة بن عبدالمطلب، تفترش الأرض أمامها وبأعين تملؤها الفرحة تنظر إليها وكأنها تتغزل فيها، ثم تخرج خنجرها وتشق بطن الشهيد وتخرج كبده، تحاول أكلها، تمضغها لكن يرفض حلقها أن يمررها لمعدتها فتبصقها على الأرض، وتشعر بلذة الانتقام، فيذهب عنها المرار بعد أن أخذت بثأرها من حمزة الذى قتل أربعة رجال هم أغلى ما تملك، فقد مات على يده ابنها وأبوها وأخوها وعمها، وذلك يوم موقعة بدر، فلم يهدأ بالها حتى قتل حمزة بأمر مباشر منها لعبدها الحبشى الذى وعدته بالحرية مقابل موت حمزة ففعل يوم معركة أحد.
لو جردت القصة من كونها فى ذلك الوقت كافرة قتلت عم النبى وأكلت كبده ومثلت بجثث المسلمين قد تجد أعذارا لتصرف هند بنت عتبة، أى سيدة مكانها تفقد ابنا وأبا وأخا وعما على يد نفس الرجل وفى نفس اليوم بالطبع سيحل الحقد والكراهية والسواد مكان الرقة فى قلبها، ولو فكرت أى سيدة لحظة فى أن أحدهم قد يؤذى لها ولدا أو والدا فقد تتحول لوحش يمزق أحشاء من أراد بأهلها سوءا، فما بالنا إن كانت هذه السيدة هى هند بنت عتبة القوية المشاكسة الحرة المعروف عنها ذكاؤها وصلابتها وعزة نفسها وحبها لأهلها.
لم تكن هند يوما امرأة عادية، بل كانت استثنائية، لم تستسلم لظلم ولم تسمح لشخص أو موقف بقهرها، وكانت شرسة فيما يتعلق بالدفاع عن نفسها إذا ما تعرضت لأذى، فنراها امرأة قوية صلبة وقفت فى وجه زوجها الأول الفاكه بن المغيرة المخزومى الذى اتهمها بالزنا، لم تبك هند ولم تتوسل إليه ولم تحاول الدفاع عن نفسها أمامه، بل هجرته لبيت أبيها عتبة بن ربيعة وأخبرته باتهام زوجها وأنه كاذب فأخذها والدها لعراف يمنى حتى يتأكد من الحقيقة، وقتها قالت لأبيها إن العراف قد يخطئ وخطؤه لا يعنى أنها زانية، وطلبت من أبيها اختبار العراف أولا بتخبئة شىء ما فى عباءته وإن علم العراف بأمره نأخذ بمشورته، وكان العراف على صدق وفقا للروايات، فعرف ما يخفيه عتبة وأخبر هند أمام الجميع أنها شريفة، وكانت لها نبؤة أخرى عنده وهى أنها ستلد ولدا تطلق عليه معاوية، وسيكون ذا شأن عظيم، وعندما علم زوجها الفاكه الخبر أراد استردادها فرفضت بعزة نفس قائلة: «والله لن تجمع رأسينا وسادة واحدة مرة أخرى»، وهجرته بعد أن برأت نفسها، وتزوجت بعده أبا سفيان الذى أنجبت منه معاوية.
صفات كثيرة اجتمعت فى هند، فبخلاف القوة وعزة النفس كانت حازمة الرأى، شرسة فى ردة فعلها، جريئة فيما تعبر عنه لا تخشى أحدا ولا تكتم ما فى قلبها، فصيحة اللسان واثقة من مكانتها بين قومها وتعتز بنفسها، كما كانت تخطط لحياتها، وتعمل على تحقيق ما تريد ولعل أكبر دليل على ذلك، وفقا لروايات عدة أنها كانت تجلس بين قومها فدخل عليها ولدها معاوية بن أبى سفيان وكان صغيرا فقال لها القوم «لدخوله هيبة كأنه سيد قومه»، فردت عليهم هند «ثكلته إن لم يسد إلا قومه» وفى روايه أخرى قالت ساخرة «ثكلته إن ساد قومه» أى عدمته إن ساد قومه فقط، فمعاوية سيكون سيد العالم، وقد كان، فهى أرادت له أن يكون سيدا على العالم، وربته منذ الصغر على هذا الأساس، وبالفعل أصبح أحد كتبة الوحى، وإن كان الله اصطفى معاوية ليكون من الصحابة وهذا قدره فهذا أيضا لا ينفى دور هند وتربيتها له وزرع القوة بداخله، ورؤيتها له منذ الصغر على أنه سيصبح يوما ذا شأن كبير وقد كان.
لم تكن هند يوما مسالمة، بل كانت مشاكسة عنيدة لا تخشى من قول ما يجول بصدرها أمام أحد، وامتلكت من الشجاعة ما أهلها لدعوة القوم لقتل زوجها عندما دخل على قومه مسرعا يوم فتح مكة قائلا: «جاء محمد لقريش بما لم أره من قبل فى المسلمين وإنه قال من دخل الكعبة فهو آمن ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن فهلموا لدارى لتكونوا فى مأمن من محمد وجيشه»، هنا انتفضت هند، فهى لا تعرف الخوف ولا الخضوع ولا الهرب، وسبت زوجها أمام الجميع ودعتهم لقتله وقتال محمد، وبعدها أعلن أبو سفيان إسلامه وأسلمت هى بعدها يوم مبايعة النسوة للنبى.
حتى أمام الرسول الكريم، لم تخشع هند، فظلت على شراستها المعهودة وجرأة القلب واللسان، فيقال إنه يوم مبايعة النسوة فى مكة كانت هند واحدة منهن، حيث جلس النبى وحوله النساء يبايعن فقال لهن النبى عليه أفضل الصلاة والسلام «بايعننى على ألا تشركن بالله» فبايعت النسوة بينما وقفت هند وهى مختبئة فى خمار وتغطى وجهها، وقالت: «إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه على الرجال» أى تدقق معنا فى التفاصيل، فلم يلتفت النبى لها وأكمل حديثة «ولا تسرقن» فردت قائلة: «زوجى بخيل ولا يعطينى ما يكفى فهل سيحدث شىء إن أخذت من ماله دون معرفته» هنا عرفها النبى وسألها «أنتِ هند بنت عتبة؟» فلم تخف وردت بمنتهى الثقة «نعم» فقال لها النبى «لكِ ولولدك ما تريدان بالمعروف»، وهنا لم يظهر النبى لها حقدا أو غضبا رغم الجرح الكبير الذى سببته لقلبه بما فعلته مع حمزة عمه وأقرب الناس إليه إلا أن سماحة النبى ورحمته فاقت كل حقد وغل.
لم تنته مشاكسة هند للنبى وعنادها معه، فأكمل محمد مبايعة النساء قائلا «ولا تزنين»، هنا انتفضت هند من مكانها قائلة «أو تزنى الحرة؟» وكأنها تقول للنبى كيف توصينا بعدم الزنا ونحن أحرار، شرفنا أغلى من الحياة، فأكمل النبى دون رد، «ولا تقتلن أولادكن»، هنا ردت عليه ساخرة «قد ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا، هل تركت لنا ولدا إلا وقتلته يوم بدر، أنت قتلت آباءهم أيضا يوم بدر، وتوصينا الآن بأبنائهم»، ويقال إن النبى تبسم ولم يغضب من ردها على الإطلاق بل قدر موقفها وتفهم صعوبة فقدانها لأربعة هم أقرب الناس لقلبها، فعذرها على ردودها، بل فرح لأن الله هداها للإسلام وأعز بها دينه، ذلك لأنها كانت من أقوى السيدات فى عصرها وكانت تلهم الجنود فى المعارك وتحثهم على القتال ببسالة وقلب قوى بأشعارها التى كانت تلهب حماسهم وفصاحة لسانها المعروفة.
إن نظرت إلى مواقفها قبل دخولها الإسلام وبعده وقبل فقدانها للأحبة فى بدر وبعد ذلك ستجد أنها لم تتغير، فهى منذ يومها الأول مؤمنة بصدق ما فى قلبها، فكانت على قدر كفرها بمحمد ودينه وإيمانها بالأصنام على قدر إيمانها بعد ذلك بالإسلام ومحمد، حثت المشركين على قتال محمد وألهبت قلوبهم بأشعارها فى المعارك التى كانت تتقدم صفوفها معهم وفعلت هذا تماما بعد دخولها الإسلام، ربت ولدها قبل الإسلام على الصدق والعفة والكرامة وأهلته ليكون ذا شأن كبير واستكملت نفس الرسالة بعد إسلامها، وهو ما يدل على أنها امرأة حرة قوية مؤمنة وبالطبع لم تشهد النسوة منذ حواء لوقتنا هذا بمثل شراستها.