يعد العالم الزاهد عافية بن يزيد بن قيس القاضى، أحد أبرز القضاة فى بغداد، حيث ولاه الخليفة المهدى القضاء ببغداد فى الجانب الشرقى، وكان أبرز ما يميزه الشجاعة والعدل والثقة، بالإضافة إلى العلم الذى اكتسبه من مرافقته للإمام أبى حنيفة النعمان.
المفارقة فى فترة قضاء "عافية"، أنه كان هو وأبوه قاضيين فى عهد الخليفة، ويقضيان فى جامع الرصافة واحد فى الأدنى والآخر فى الأعلى أو فى الطابق الثانى من نفس المسجد.
من المذكورات التى تدل على مدى علم "عافية أن أصحابه حينما كانوا يخوضون فى مسألة فإن لم يحضر عافية قال الإمام أبو حنيفة لا ترفعوا المسألة حتى يحضر "عافية" فإذا حضر ووافقهم طلب الإمام أبو حنيفة إثباتها، وإن لم يوافقهم طلب منهم عدم إثباتها.
من بين المواقف التى تدل على أن القاضى عافية لا يهاب أحدا مهما كانت سلطته، أنه كان فى مجلس مع أمير المؤمنين هارون الرشيد، وكان الأمير يخاطبه على ما رفع إليه ضده، وخلال الانعقاد عطس أمير المؤمنين فشمته "أى قالوا له يرحمك الله" كل من كان فى المجلس إلا القاضى عافية، لم يقل مثلهم، وحينما سأله أمير المؤمنين لماذا تقل "يرحمك الله" كما فعل القوم، فقال له "عافية" لأنك لم تحمد الله، فلذلك لم أقل لك: يرحمك الله.
"القاضى عافية" لم يقل مقولته فحسب بل استشهد بقول "الرسول" صلى الله عليه وسلم- عندما عطس عنده رجلان فشمت أحدهما، ولم يشمت الآخر فحينما سأله أحدهما: لماذا شمته ولم تشمتنى، فرد "رسول الله"- صلى الله عليه وسلم: لأنه حمد الله فشمتناه وأنت لم تحمده فلم أشمتك، فقال له أمير المؤمنين ارجع إلى عملك فأنت لم تسامح فى عطسة أتسامح فى غيرها؟، وصرفه بطريقة حسنة.
من بين المواقف الشهيرة التى قضى فيها "عافية"، وأدت إلى اعتزاله القضاء حينما تخاصم إليه خصمان وجيهان فى مشكلة معضلة، وكلاهما يؤكد أن له ما يثبت أنه على حق، وأدليا أمامه بحجج تحتاج إلى التأمل والإثبات، فقام برد الخصوم، أملا فى أن يتصالحوا أو يتبين له وجه فصل بينهما ويحل مشكلتهما، إلا أن أحدهما على أنه يحب الرطب كثيرا.
وقال عافية: إن أحدهما علم أنى أحب الرطب السكر، فتعمد فى وقتنا هذا وهو أول أوقات الرطب السكر فجمع له طبقا منه، ورشى بوابه حتى يدخله، وحينما أدخله رفضه وطرد البواب، لكن الرشوة تركت أثرها فى نفس القاضى، ووجدها تميل نحو الخصم صاحب الهدية المرفوضة، فآثر القاضى الاعتزال لأنه يخشى الله، قائلا لأمير المؤمنين: "أقلنى أقالك الله واعفنى".
من جانبه قال الداعية أشرف سعد، أحد العلماء إن عدم "تشميت" عافية بن يزيد القاضى للخليفة عندما عطس يدل على شدة علمه بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشدة الحرص على تطبيقها فى حضرة أى شخص حتى وإن كان الخليفة.
وأضاف "سعد"، أن العصر القديم كانت تقدر فيه مثل هذه الأمور، وكانت السنة تعظم، ومن ثم فإن القاضى "عافية" حينما فعل ذلك فإنه أراد أن يظهر نموذجا عمليا واقعيا لتطبيق السنة فى تشميت العاطس، ومن ثم فإن كان فى هذه المسألة حريصا على السنة، فلا شك فى أنه فى أمور الحق والعدل، وإقامة أمور الميزان سيكون أحرص.
وأشار "سعد"، إلى أن قيام "عافية" باعتزال اللقضاء لمحاولة شخص رشوته وميل نفسه للهدية، رغم أنه رفضها وطرد من قدمها له، فهذا يدل على نزاهته وخوفه من ربه، وعلى علمه بالخطورة التى يكون عليها القاضى، وأنه يعلم بأن القضاة ثلاثة اثنان فى النار وواحد فى الجنة وهو القاضى الذى علم الحق وعمل به، أما الاثنان اللذان سيدخلان النار فاحدهما الذى يجهل بالحق ويحكم ولا يعرف الحق من الباطل وأما الثانى فهو الذى يعرف الحق ولا يحكم به، ومن ثم فإنه لما رأى ميلا طفيفا إلى أحد الجانبين اعتزل القضاء لأن السنة فى القضاء أن يكون الميزان متزنا تجاه المتخاصمين، ولابد أن يتم المساواة بينهما وأن يجلسان بجوار بعضهما البعض.
وتابع، إنه استشعر الحرج، ورأى أن نفسه تميل إلى جهة ما، فاعتزل الحكم لأن مقصد القضاء فى الإسلام هو إقامة العدل بين المتخاصمين، والنفس إذا مالت تجاه أحدهما خالفت العدل.