نسير فى الحياة عبر رقعة كبيرة مقسمة بالتساوى إلى مربعات، بعضها ناصع البياض وبعضها قاتم سواده، وعليها يقف البشر وفقًا لقلوبهم، فمنا من منحه الله قلبًا أبيض وسيرة عطرة، فوضعه التاريخ فى موضعه على الرقعة البيضاء، ومنا من تملك السواد من قلبه فكانت الرقعة السوداء مصيره، وبين كل هذا نسوة أثرن فى الحياة خيرًا وشرًا ووقفن داخل الرقعتين أو تنقلن بينهما، ومن خلال هذه السلسة نحاول النظر إلى سيرتهن نظرة أخرى دون الحكم على واحدة منهن أو التأثر بإيمانها أو كفرها، فقط نتناول سيرتها كأنثى أثرت فى الحياة، ولكم وحدكم الحكم.
للحق كارهوه، وللنور محاربوه، يعيشون فى الظلمات خشية التعرى، يقاتلون بوحشية وشراسة كل من يشعل شمعة لإضاءة الطرق المظلمة، ينكلون بمن ينطق بالحق، وبمن يخالفهم بالرأى، ولأن الجهل أضعف، فهو لا يسمع ولا يناقش ولا يتفهم ولا يُؤْمِن بحرية، فقط يهاجم ويتهم ويطلق الأحكام وينفذها بفظاظة وغلاظة قلب، فيكون التنكيل هو مصير كل من أراد النور للبشرية، وكان مصيرًا محتومًا لهيباتيا، الفيلسوفة التى اعتزلت البشر والبشرية ووهبت نفسها للعلم والعلوم، فتعلمت الرياضيات والفلك ثم تخصصت فى الفلسفة، وتلقت العلم عن والدها الفيلسوف السكندرى ثيون الذى كان واحدًا من أكبر علماء مكتبة الإسكندرية، ويبدو أن والدها تعمد أن تتلقى ابنته المزيد من العلوم المسموح بها للفتيات، وأشرف بنفسه على تعليمها بجامعة الإسكندرية وقت حكم الرومان لمصر ومع بداية انتشار المسيحية فيها، ونظرًا لنبوغها وعلمها استطاعت هيباتيا أن تلتحق بالجامعة، وتقوم بالتدريس بها وكان عمرها 25 عاما فقط، فنظرًا لتفوقها فى العلوم انتقلت من صفوف للدارسين لصفوف المدرسين فأصبحت أستاذًا لزملائها، والأصغر بين المعلمين والفلاسفة، والأهم من ذلك أنها كانت السيدة الوحيدة بين مجموعة الفلاسفة فى وقت لم يسمح فيه للنساء العمل، رغم السماح لهم بتلقى بعض العلوم، لكن العمل غير مسموح، والعمل فى التدريس ودراسة الفلك والفلسفة هو الأمر الأكثر بعدًا عن النساء ولم يتقبله منها إلا تلاميذها، بينما بقى المجتمع يحاربها.
لم تلتفت هيباتيا بما يواجهها من رفض، كما أنها لم تفكر كبقية النساء فى رجل وبيت وأولاد، فلم تتزوج ويقال إن أحدهم سألها ذات مرة عن السبب وراء عدم زواجها فأجابت أنها متزوجة بالحقيقة، ويقال أيضًا إن أحد الرجال تقدم لخطبتها يومًا فجاءت إليه بمنديل ملطخ ببقعة دم وردت عليه قائلة «هذا الحب الجسدى دائما ما يكون مخلوطا بالدم»، فلم تفكر سوى فى العلوم، لم تهتم سوى بالفلسفة فتخصصت بها واتخذت من أفلاطون معلما، واعتنقت مذهبه المبنى على الحقيقة، وأعلنت اعترافها بالحقيقة فوق كل شىء، وأن القانون أقوى من الطبيعة، كما آمنت بالحريات، حرية التفكير وحرية اعتناق الدين، وحرية الإيمان، ورفضت تمامًا الإيمان المجرد الذى يخلو من التساؤلات والتأمل ورحلة الشك وصولًا لليقين والحقيقة، وكان لها قول مشهور حول التفكير والتأمل، حيث كانت تقول «حافظ على حقك فى التفكير، فحتى التفكير الخاطئ أفضل من أن لا نفكر على الإطلاق»، فلم يشغلها سوى بالفكر والفلسفة التى كان يعتبرها رجال الدين المسيحى وقتها «أواخر القرن الثالث الميلادى» سحرًا، ويتهمون كل فيلسوف يدعو للحقيقة والتأمل والتعقل ساحرًا زنديقًا، ورغم أنه لا توجد مصادر تاريخية تؤكد بحسم هل كانت هيباتيا مسيحية أم أنها لا تؤمن بأية ديانة فقد حاصرتها الاتهامات بالزندقة والكفر.
لم تكن الفيلسوفة الزاهدة من الدنيا إلا من العلم ذكية وجميلة العقل فقط بل كانت جميلة القلب والوجه أيضًا، فقد أحبها بشدة كل تلاميذها الذين كان يعتنق كثيرون منهم الديانة المسيحية، وهو ما يؤكد لنا أنها لم تكن كافرة أو كارهة لدين، أو حتى تدعو للكفر، هى فقط تتأمل وترفض المسلمات، ورغم كل المعارضات التى واجهتها الفيلسوفة على تدريسها للفسلفة حتى وصولها عميدًا لجامعة الإسكندرية ومحاربة فكرها واتهامها فهى حتى هذه النقطة لم تواجه معارضة شرسة من رجال الدين المسيحى الذين رفضوا أفكارها، ورفضوها فى المجتمع، لكنها حتى الآن لا تؤثر فى أحد، لكن الخطر الحقيقى بدأ مع بدايةالتفاف جمهور المثقفين حولها، مما وضع الكنيسة فى حرج بسبب تأثيرها الذى بدأ يظهر عليهم ومن بعدهم عامة الشعب، وأن التفاف الناس حولها يزداد يومًا بعد الآخر، وهذا كله فى كفة وقربها من الوالى «أوريستوس» الذى كانت بينه وبين أسقف الإسكندرية وقتها «كيرلس الأول الملقب بعامود الدين»، ويقال أيضًا إن اسمه الأسقف «سيرل»، صراع سياسى فى النفوذ والسيطرة على المدينة، بينما جمعته بهيباتيا صداقة بالغة واستطاع الوالى أن يجمع حولها جموع المسيحيين من الشعب، مما جعل كيرليس يغضب ويشعر بالقلق من هيباتيا على نفوذه وسلطانه، فطالب بمنع عمل النساء وضرورة عودة المرأة وبقائها فى المنزل وحظر عملها بالتدريس أو الفكر وعدم الاستماع إليها، بل والتحريض على قتل هيباتيا كونها وثنية وكونها «ساحرة» ابتكرت نظريات علمية تسعى إلى تضليل البشرية، ولأنها لا تؤمن بالديانة الجديدة، ولم يشفع لها كونها تدافع عن حق أى إنسان فى الإيمان، خاصة أنه كان فى صراع مع بعض أساقفة اليهود، الذى سعى جاهدًا لطردهم من المدينة ونجح فى ذلك بنسبة كبيرة، بالإضافة للتنكيل والفتك باليهود المقيمين فى الإسكندرية من عامة الشعب، ونهب ممتلكاتهم وقتلهم، وهو الأمر الذى إن دل فإنما يدل على أن التطرف لا يقتصر على ديانة أو طائفة، فهو يتكرر بنفس الصورة فى عصور مختلفة مع طوائف متعددة، فالعذاب الذى لقيه المسيحيون الأوائل من الرومان واليهود والتنكيل بهم مارسوه أنفسهم وبنفس الصورة البشعة على كل من يخالفهم العقيدة فاضطهدوا الأقلية بعدما كانوا مضطهدين لأقليتهم، ومارسوا العنف ضد كل مختلف كما تعرضوا من قبل، الخلاصة أن الفوضى عمت الإسكندرية ولم يستطع الولى «أوريستوس» التصدى لها لدرجة أنه عند تدخله قام رجال الكنيسة بقذفه بالحجارة وإهانته.
استغل الأساقفة هذا الصراع ضد هيباتيا خاصة بعدما أرسل الوالى خطابًا للإمبراطور يخبره بما جرى بين اليهود والمسيحيين، فأشعل الأساقفة النيران ضد هيباتيا وروجوا أنها السبب وراء كل هذه الصراعات فى المدينة بسبب أفكارها التى تنشرها بين الناس ودعوتها للكفر والزندقة والإلحاد، وأن الأمان فى الإسكندرية لن يعود إلا بالتخلص منها، وذات يوم وهى عائدة من إحدى الندوات فى عربتها على طريق وادى النطرون تعقبها الأساقفة وأوقفوا العربة وجروها من شعرها وجردوها من ملابسها حتى أصبحت عارية تمامًا ثم ربطوا يدها بحبل وسحلوها فى شوارع الإسكندرية حتى تسلخ جلدها من السحل، وإمعانًا فى التعذيب قاموا بسلخ ما تبقى من جسدها إلى أن صارت جثة هامدة تمامًا، ثم وضعوا جسدها فى كومة من الأخشاب وأحرقوها، وتقول رواية أخرى إنهم سحلوها حتى وصلوا الكنيسة وهناك حاول أحد الأساقفة قتلها بقطع رقبتها لكن باقى الأساقفة منعوه من ذلك، وقاموا جميعًا بتقطيع جسدها حتى ينالهم جميعًا شرف مقتل هيباتيا المتهمة بالوثنية والخروج على مفاهيم الكنيسة بابتكار نظريات علمية تضلل البشر، وممارسة الفلسفة التى اعتبرت «سحرًا»، وبعد تقطيع جسدها إلى أشلاء أمسكت كل مجموعة قطعة بعد قطعة وراحت تكشط اللحم عن العظم بمحار حاد الأطراف، ثم أوقدوا نارًا وقذفوا فيها بأعضاء جسدها، فى مشهد وصفه المؤرخون على أنه بالغ الغرابة، فقد كانت المتعة والفرحة والتشفى ملامح تظهر على وجوه الرهبان وهم يمارسون أقصى أشكال التعذيب والتنكيل ضد هيباتيا، وبالطبع كانت النتيجة الحتمية لهذا المشهد فوضى عارمة فى الإسكندرية وتطرف يسود وجهل يعم فى الشوارع، فتعصبت الجموع خاصة بعد هجرة عدد كبير من العلماء من الإسكندرية، وقيام عامة الشعب باقتحام الجامعة والمكتبة وحرق الكتب كلها، فكان مقتلها بمثابة نهاية لقرون من التقدم فى علوم الفلك والرياضيات شهدتها الإسكندرية.