اشتد المرض على الشاعر الكبير خليل مطران قبل وفاته بأسبوعين، لكنه لم يفقد انتباهه ويقظة نفسه حتى قبل وفاته بثلاثة أيام، حسبما يؤكد طاهر الطناحى فى كتابه «الساعات الأخيرة» عن «دار الهلال - القاهرة»، مؤكدًا أنه خلال الأيام الثلاثة «بدأ يرحل بخياله إلى العالم الآخر، فكان يخيل إليه أن أمه وأخاه المرحوم جورج وملاك من السماء يزورونه فى غرفته، فيرحب بهم، ويقول: أهلًا وسهلًا، ويلتفت إلى من حوله وإلى ممرضته، ويقول: أوقدوا الأنوار.. إن الضيوف الكرام قد حضروا، ثم ينتبه، وينظر إلى من بجواره ويقول: إنى أرى شيئًا جميلًا، إنى أرى العالم الآخر ما أحلاه، إنه حقًا جميل.. ما كنت أدرى أنه بهذا النعيم.. بقى محتفظًا بقواه الذهنية إلى ما قبل وفاته بساعات».
وفى يوم 1 يونيو «مثل هذا اليوم» عام 1949، توفى خليل مطران المولود فى بعلبك بلبنان فى الأول من شهر يوليو 1872، و«المتجه إلى مصر فى شهر أغسطس سنة 1892 ليستقر فيها بقية عمره، وسيبدأ على الفور فى البحث عن نشاط يشكل مورد رزقه، ويحدد مجال مساهمته فى المجتمع الذى سيعيش فيه بصفة مستمرة حتى عام 1949، وكان المجال الذى استقر عليه هو المجال الأدبى والصحفى»، وفقًا للدكتور أحمد درويش فى كتابه «خليل مطران - المسيرة والإبداع» ترجمة: رشا صالح عن «مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود - البابطين للإبداع الشعرى».
فى لبنان تفتحت موهبته الشعرية، ويقول درويش: «ترعرع الشاعر الشاب فى ظل الحركة الوطنية، وساهم فيها بكل ما يستطيع، فكان يكتب - دون توقيع - القصائد الحماسية ضد الترك، وكان ما يكتبه ينتقل سريعًا من الأفواه إلى الآذان ليصل فى النهاية إلى أذن الحاكم التركى، السلطان عبدالحميد، وبدأت التهديدات تحيط به، حتى بلغت مداها، عندما عاد إلى حجرته ذات ليلة متأخرًا، فلاحظ أن طلقات من الرصاص أطلقت على مخدعه ظنًا أنه بداخله، وهكذا تأكد أنهم قرروا قتله ومنذ هذه اللحظة قرر الخروج من لبنان ليواصل النضال خارجها».
هرب إلى فرنسا عام 1890، وظل بها حتى عام 1892 ثم جاء إلى مصر لتبدأ مرحلته المصرية التى دامت حتى رحيله، وفى هذه المرحلة سيصبح هو وأحمد شوقى «أمير الشعراء» وحافظ إبراهيم «شاعر النيل»، الثالوث الذى يجدد الشعر العربى، ويفك أسره من الضعف الذى لحقه، ويضعه الدكتور طه حسين فى مكانة خاصة، ويذكر فى كتابه «تقليد وتجديد»: «كان شوقى وحافظ رحمهما الله خاتمة شعرائنا المعاصرين الذين ردوا إلى الشعر القديم نضرته بعد أن عبثت به القرون، ولكنّ ثالثًا كان لهما صاحبًا وصديقًا، وعسى أن يكون لهما أستاذًا ورئيسًا فى كثير من الأحيان، كما كان البحترى يقول بالقياس إلى أبى تمام، وهذا الشاعر هو خليل مطران»، ويضيف: «خليل مطران يختلف عن صاحبيه، فهو ليس مصرى المولد ولا مصرى النشأة، ولكنه ولد ونشأ فى لبنان، وتأثر بحياته الأولى فيه، ولم يأت مصر إلا فى أوائل شبابه أو بعد أن تقدم شبابه قليلًا، ولكنه فى الوقت نفسه مصرى الإقامة، مصرى التفكير، مصرى الآثار، فى فنه وفى شعره وفى عواطفه.. هو كأبى تمام، كانت مصر والشام تتنازعانه، لأن أبا تمام ولد وشب وأقام بمصر، وكذلك كانت مصر ولبنان تتنازعان خليل مطران».
يضيف طه حسين: «إذا نظرنا إلى المولد والنشأة الأولى فخليل مطران لبنانى، فما فى ذلك شك، وإذا نظرنا إلى أنه قد أنفق أكثر حياته فى مصر، وتأثر بأحداثها وتأثر بالأحداث العربية المختلفة عن طريق التأثر المصرى العام فمطران مصرى، ومن أجل ذلك كان المعاصرون يسمون خليل مطران شاعر القطرين فى أول الأمر، كما كانوا يسمون شوقى أمير الشعراء، وكانوا يسمون حافظًا شاعر النيل، فلما توفى صاحباه وعمر بعدهما دهرًا سماه المصريون وغير المصريين شاعر الأقطار العربية، وليس من شك أنه كان شاعرًا مبرزًا من شعراء العرب فى العصر الأخير.. هو - كما قلت - ربما كان مكانه من شوقى ومن حافظ فى كثير من الأحيان مكان الأستاذ والرئيس، ذلك أنه كان أعمق منهما ثقافة، وأكثر منهما اطلاعًا، وأشد منهما مصاحبة للثقافة الأجنبية، وأكثر منهما ممارسة متصلة لهذه الثقافة، وهو لم يكن محدود الأفق، ولم يكن مقصورًا على ألوان معينة من الثقافة، كما أنه لم يكن مقصورًا على ألوان معينة من ألوان الحياة، فهو أولًا لم يقف نفسه على الشعر، ولكنه اشترك فى النثر أيضًا، واشترك فى الصحافة كذلك.. لم يتخذ الشعر صناعة ومهنة، ولم يتخذه على كل حال مكسبًا، وإنما كان الشعر بالقياس إليه فنًا يهواه وتألفه نفسه وتطمح إليه طبيعته».