فى التاريخ أناس وعدهم الله عز وجل بتعاظم القدر وتضاعف الحب بمرور الأيام، حب لا ينقطع ولا يقل، بل يزيد فى قلوب المحبين ويتمدد لغيرهم، فتظل سيرتهم حاضرة نستأنس بهم ونلجأ إليهم ونتعلم منهم ونستند عليهم ونضعف أمامهم، وكأنهم أنفسنا التى تضل عنا، كأنهم الأب والأم والأخ والزوج والابن، كأنهم الروح التى تبقى حية بداخلنا، والضمير الذى لا يموت فينا، ومن بين هؤلاء السيدة زينب، بنت بنت النبى، كريمة الحسب، الصابرة المحتسبة، المتفائلة، المقاتلة، السيدة التى ولدت وتربت فى بيت يملأه النور والإيمان، فجدها أشرف الخلق سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وجدتها السيدة خديجة، وأمها فاطمة أقرب الناس لقلب محمد، وأبوها الطاهر على بن أبى طالب، وأخواها سيدا شباب الجنة سيدنا الحسن وسيدنا الحسين، ولك أن تتخيل من تنشأ وسط رعاية هؤلاء، لكن للأسف ما شهدته السيدة زينب فى حياتها لا يتحمله بشر ولا يقوى عليه صابر، فقد عاشت محنة تلو الأخرى، بداية من وفاة جدها نبى الله وهى بسن صغير، ثم وفاة أمها فاطمة بعد محمد بشهور، نتيجة حزن واعتكاف وضيق عيش، فصارت الصغيرة مسؤولة عن ثلاثة رجال هم أبوها على بن أبى طالب وأخويها الحسن والحسين، ومرت الأيام قليلة ثم مات أبوها بطعنة غدر قاتلة، فصبرت على كل هذا واحتسبت ورضت بقضاء الله وقدره.
تزوجت من ابن عمها سيدنا عبدالله بن جعفر الطيار رضى الله تعالى عنه، وأنجبنت منه ولدا فقدته فى معركة الكوفة مع أخوها الحسين، واشتهرت السيدة بالعديد من الصفات منها الكرم وحب المساكين وجمال الخلقة والخلق والإقدام والشجاعة، وحسن المشورة، والعلاقة الطيبة القوية بالله، وكثيرًا ما كان يرجع إليها أبوها وإخوتها فى الرأى ويأخذون بمشورتها لبعد نظرها وقوة إدراكها، كما كانت قوامة صوامة قانتة لله نائبة إليه، تقضى أكثر لياليها متعبدة متهجدة تالية للقرآن الكريم، وهو ما أهلها لتكون مرجعًا مهمًا فى الإسلام فى حياتها، فقد كانت تجمع النسوة فى مجالس العلم تعلمهم، ويقول بعض المؤرخين إن الرجال أيضًا كانوا يجلسون فى مجالسها يتعلمون منها، ويستقون منها دروس الدين وذات مرة سمعها أبوها على بن أبى طالب وهى تفسر بعض آيات القرآن فتعجب لقدرتها على توصيل المعلومات ببساطة وشرح آيات الله بهذا الإتقان ففرح بها وأثنى عليها، ويمكن القول إن السيدة زينب كانت أول من أعلى شأن المرأة فى الإسلام، حيث بهذه الدروس ويمكن أيضا نفى كل ما يقال عن أن الإسلام يقلل من شأن المرأة ويحقرها، فها هى حفيدة النبى تعلم الرجال ويجلسون فى مجالسها دون أن ينعيها أحدهم بالعورة أويقول كيف نستقى العلم من سيدة، كما شاركت سيدتنا العظيمة أخويها الحسن والحسين فى جميع ميادين الجهاد.
ظلت «ستنا زينب» تواجه المصائب واحدة تلو الأخرى بالصبر والاحتساب وقيام الليل، وظلت تواجه هذا الظلام بالتفائل فكانت تقول «كم لله من لطف خفى/ يدق خفاه عن فهم الذكى/ وكم يسر أتى من بعد عسر/ وفرج كربة القلب الشقى/ إذا ضاقت بك الأحوال يوما/ فثق فى الواحد الفرد العلى/ ولا تجزع إذا ما ناب خطب فكم لله من لطف خفى»، حتى كانت الطامة الكبرى فى حياتها وتاريخ الإسلام معا، بالحرب بين المسلمين وأنفسهم انقسم بعدها العالم الإسلامى لسنة وشيعة واعتبرها المؤرخون أكبر فتنة حدثت فى تاريخ الإسلام، وكانت حرب كربلاء الدموية الطاحنة بمقتل أخيها الحسن وإصرار يزيد بن معاوية على أخذ الخلافة من أخيها الحسين بن على والاستحواذ على السلطة، وبدأت هذه المحنة بتهديدات الأمويين للحسين وأهله ومن بينهم أخته زينب، متجهين سرا للكوفة بعد أن وعدهم أهلها بنصرتهم على الأمويين وقامت معركة كربلاء بتحرك الحسين بن على مع عدد قليل من أقاربه وأصحابه، للجهاد ضد يزيد بن معاوية، فقد رافقته شقيقته زينب إلى كربلاء، ووقفت إلى جانبه، وشهدت كربلاء بكل مصائبها ومآسيها، فرأت بعينيها يوم عاشوراء كل أحبتها يسيرون إلى المعركة ويستشهدون، حيث قُتل أبناؤها وأخوتها وبنى هاشم أمام عينيها، وبعد انتهاء المعركة رأت أجسادهم بدون رؤوس وأجسامهم ممزقة بالسيوف، وكانت النساء الأرامل من حولها وهن يندبن قتلاهن وقد تعلق بهن الأطفال من الذعر والعطش، وكان جيش العدو يحيط بهم من كل جانب وقاموا بحرق الخيم، واعتدوا على حرمات النساء والأطفال وبقيت صابرة محتسبة عند الله ما جرى عليها من المصائب وقابلت هذه المصائب العظام بشجاعة فائقة، كما شهدت المعركة كربلاء استشهاد أخيها الإمام الحسين وابنها عون وثلاث وسبعين من آل البيت والصحابة وأبناء الصحابة، فما كان منها إلا الصبر والاحتساب والقوة، ويقال إن زينب بعد المعركة شقت صفوف الأمويين ودخلت أرض المعركة وأخذت رأس أخيها الحسين وأخذت تمسح الدماء المتجلطة من عليها وهى تقول «اللهم تقبل منا هذا القربان، ففى سبيل دينك ضحى بنفسه، وأهل بيته وأصحابه»، وهى نفس المعركة التى فقدت فيها زينب ابنها، كان لزينب دور بطولى وأساسى فيها لا يقل عن دور أخيها الحسين بن على وأصحابه صعوبة وتأثيرًا فى نصرة الدين، فقد قادت مسيرة الثورة بعد استشهاد أخيها وكان لها دور كبير، حيث عملت على توضيح حقيقة هذه الثورة، وأبعادها وأهدافها للعالم.
بعد مقتل الحسين وقيادة زينب للثورة ضد الأمويين دخلت قافلة السبايا إلى الكوفة بأمر من عبيد الله بن زياد الذى كان واليا على الكوفة آنذاك، فخرج أهل الكوفة للنظر إليهم، فصارت النساء يبكين وينشدن، فوقفت زينب بكل قوة وخطبت خطبتها الشهيرة قبل دخولها إلى مجلس ابن زياد، فقالت لهم «أتبكون فلا سكنت العبرة ولا هدأت الرنة، ويلكم أتدرون أى كبد لرسول الله فريتم؟ وأى عهد نكثتم؟»، فكانت خطبة فى غاية الفصاحة وكلامها يفيض بحرارة الإيمان فضج الناس بالبكاء والعويل، وعندما أدخلت نساء الحسين وأولاده إلى قصر الكوفةحاول ابن زياد التهجّم على أهل بيت، والشماتة بما حصل لهم فى كربلاء، فكان ردّ زينب قويا وعنيفا ولم تأبه بحالة الأسر والمعاناة التى كانت عليها حين سألها ابن زياد فى سؤال يملأه الحقد والكراهية والتشفى «كيفَ رأيتِ فعلَ اللهِ بأهلِ بيتكِ ؟!» فقالت: «ما رأيت إلاّ جميلا، هؤلاء قوم كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم»، وكان كلامها معبرًا عن حالة الرضا والتسليم المطلق للّه عزّ وجلّ، وانتهى موقفها فى الكوفة إلى فضح القتلة، واستمرت فى ثورتها على الأمويين والمطالبة بقتل القتلة.
شعر الأمويين بالخوف من الثورة التى تتزعمها زينب، فأمر يزيد بن معاوية بخروجها من المدينة هى وباقى أهل محمد، وتم نفيها، فاختارت مصر ملجأ لها لأكثر من سبب، أولهم كما ذكرت وقتها أن مصر دولة ذكرت فى القرآن خمس مرات نصا صريحا بينما ذكرت عشرات المرات بشكل غير مباشر، كما لأنها سمعت أن أهل مصر يعشقون آل بيت النبى وتعتبر السيدة زينب من أول نساء أهل البيت اللاتى شرفن أرض مصر بالمجىء إليها، فوصلت مع بزوغ هلال شهر شعبان بعد ستة أشهر على استشهاد أخيها الحسين ومعها «فاطمة» و«سكينة» و«على» أبناء الإمام الحسين، واستقبلها أهل مصر وواليها فى داره بالحمراء القصوى بمنطقة السيدة زينب، وكان لها فى مصر عظيم المحبة فى قلوب المصريين حتى موتها، وهنا اختلف المؤرخون حول مكان وفاتها فبعضهم يقول إنها توفيت فى الشام والبعض يقول إنها ماتت فى مصر ولها فى البلدان مقام، كما لها مقام أكبر فى قلوب كل المؤمنين حول العالم.