نسير فى الحياة عبر رقعة كبيرة مقسمة بالتساوى إلى مربعات، بعضها ناصع البياض، وبعضها قاتم سواده، وعليها يقف البشر وفقا لقلوبهم، فمنا من منحه الله قلبا أبيض وسيرة عطرة فوضعه التاريخ فى موضعه على الرقعة البيضاء، ومنا من تملك السواد من قلبه فكانت الرقعة السوداء مصيره، وبين كل هذا نسوة أثرن فى الحياة خيرا وشرا ووقفن داخل الرقعتين أو تنقلن بينهما، ومن خلال هذه السلسلة نحاول النظر إلى سيرتهن نظرة أخرى دون الحكم على واحدة منهن أو التأثر بإيمانها أو كفرها، فقط نتناول سيرتها كأنثى أثرت فى الحياة، ولكم وحدكم الحكم.
للقوة شروط لا يمكن التنازل عنها، فمن شروطها الذكاء، ومن شروطها الشورى، وعدم التمسك بالرأى، ومن شروطها التواضع، ومن شروطها التفاوض وفهم الآخرين، ولو أردت أن تجمع هذه الصفات مكتملة فى شخص فسيكون بلا منافس بلقيس، ملكة سبأ التى ضرب الله مثلا بها فى الذكاء فى القرآن الكريم، فهى سيدة استطاعت أن تحكم وتحافظ على الحكم ويزدهر ملكها، واستطاعت أن تحافظ على مملكتها من الطغيان ومن الكفر أيضا، والمعروف أنها حكمت مملكة سبأ، ومكانها الحالى باليمن، فترة ملك سيدنا سليمان، عليه السلام، وقد ذكرت حكاية سليمان وبلقيس فى كل الكتب السماوية، فى العهد القديم، والعهد الجديد، كما ذكرت فى القرآن، ورغم اختلاف تفاصيل قصة لقائها بسليمان فى كل كتاب عن الآخر فإن الكتب جميعها اتفقت على ذكاء وفطنة هذه الملكة العظيمة.
بدأت بلقيس حياتها ابنة لملك حمير، وبعد موته استحقت هى العرش وتولته، وكان فى المدينة رجل يدعى عمرو بن الأذعار وكان رجلا شريرا طمع فى الحكم واستغل كونها أنثى وانقض على الحكم وسلبه منها وأغرق البلاد فى الظلم والفساد والطغيان، فاختفت هى عن الأنظار فترة، ثم عادت وقتلته، واختلف المؤرخون حول طريقة القتل، فبعضهم يقول إنها أخبرته أنها تريد الزواج منه فوافق وذهب إليها وظلت تسقيه الخمر حتى تملكه السكر وهنا أخرجت خنجرا وقتلته وأعلنت نفسها ملكة على سبأ، بينما يقول البعض إنها ذهبت إليه خلسة وقتلته بعد أن دبرت لذلك مع بعض أتباعها وأتباع والدها، وهنا لا يمكن لومها على فعلتها، فقد سلب منها الأذعار ملكها وأغرق البلاد فى الظلم ونهب خيراتها، فهى أرادت التخلص من حاكم مستبد سرق منها سلطانها وسعى فى أرضها فسادا، وما يعزز هذا الحديث ازدهار مملكة سبأ فى عهدها وتحولها لواحدة من أقوى الممالك وأغناها فى العالم القديم.
بعد الحكم والازدهار ظهر نبى الله سليمان فى حياة بلقيس، ولظهوره روايات مختلفة فى الكتب السماوية، فالرواية فى العهد القديم تقول إن بلقيس سمعت بحكمة سيدنا سليمان، وأنه يدعو لدين أبيه داود، فأرادت بلقيس اختبار هذه الحكمة خاصة أن المعروف عن الملكة هو الذكاء الشديد ومهارتها فى الأحاجى، فذهبت إليه ومعها قافلة من الجمال محملة بالأحجار الكريمة والذهب والأبخرة التى لا يوجد لها مثيل إلا فى مملكة سبأ، وعندما رأته قالت له إنها سمعت بحكمته وفطنته ومعرفته، وإنها جاءت لتختبر هذه الحكمة، فتبسم نبى الله وسمح لها باختباره دون أن يشعر أن الأمر ينتقص منه، وبالفعل بدأت فى الأسئلة التى أجاب عنها النبى بمعرفته وحكمته، وهنا استلسمت وآمنت به وبدينه وعادت إلى قومها وأخبرتهم أنه بالفعل نبى الله وأن عليهم اتباع دينه وترك عبادة الشمس، وقد اتبع سليمان كل من فى سبأ بعد إيمانها، ووفقا للرواية فى العهد القديم فقد ازدهرت مملكة سليمان وقتها لدعم بلقيس لها، ووفقا للعهد القديم فقد تزوجت بلقيس من سليمان وأنجبت منه ولدا، وهى الرواية التى ذكرها بعض مفسرى القرآن الكريم من المسلمين دون توضيح مصادرهم فى ذلك، لكن قالوا إن هناك روايات عن زواج سليمان وبلقيس لم يذكرها الله تعالى فى القرآن مع ذكر قصتهما، لأن تفاصيل زواجهما لا تخدم قصة سليمان ودعوته ودخولها فى دين نبى الله داود.
التفاصيل التى ذكرها القرآن عن قصة بلقيس قد تكون أكثر استفاضة عن الملكة وعظمتها، فقد أوضح القرآن الكثير من الصفات الشخصية لبلقيس، فقد بدأت الحكاية فى القرآن الكريم بغياب الهدهد عن جيش سليمان، وهو ما استوقف الملك وجعله يسأل عنه، فأتى إليه الهدهد قائلا جئتك من سبأ بخبر يقين، وأخذ يخبره عن مملكة بلقيس وحكمها وغناها وقوتها، وأنهم يعبدون الشمس، هنا انتبه سليمان وأرسل جيشا من الطيور بقيادة الهدهد إلى سبأ وكتب لبلقيس رسالة يدعوها لزيارته، فذهب الجيش الذى حجب الشمس عن الملكة فور وصوله وقت أن كانت تتعبد إليها، فلما رأت الرسالة معلقة فى رقبة الهدهد أخذتها وقرأتها، ثم جمعت رجالها ومستشاريها وأخبرتهم بالرسالة وطلب سليمان لها باتباعها دينه، فتفاخر مستشاروها بقوتهم وجيشهم وملكهم، لكنها لم تفعل، بل قالت لهم إن سليمان لو دخل بلدهم سينقلب حالها ويجعل أسيادها أذلاء، أنا سأرسل إليه الهدايا، ولنرى إذا ما تغير موقفه بعد ذلك أم تمسك به. ولو تأملت هذا الموقف من بدايته فستجد سيدة قوية، تعمل بالشورى ولا تستبد برأيها رغم أن القوة لها والحكم فى يدها وحدها، لكنها أخذت رأى مستشاريها، وعندما خالفته لم تعارضهم، إنما شرحت لهم ما يدور فى رأسها، ونظرت الملكة حولها فرأت تقدم شعبها وثراءه، وخشيت على هذا الثراء والتقدم من الغزو ورجحت الحكمة فى نفسها على التهور، وقررت أن تلجأ إلى اللين، وترسل إليه بهدية وقدرت فى نفسها أنه ربما يكون طامعا قد سمع عن ثراء المملكة، فقررت أن تشترى سلام بلدها منه بهدية، وفى نفس الوقت هديتها ستمكن رسلها من دخول مملكته، وهنا يستطيعون تقييم الموقف بأعينهم ومعرفة أسرار ملكه وأخبار قومه وجيشه، ووفقا للمعلومات تستطيع هى اتخاذ قرار صحيح، كما أوضحت أن كل ما يشغل بالها هو رعيتها وقومها الذين تريد لهم الخير دوما وتخشى عليهم من الذل والدمار، فهى ملكة مخلصة لشعبها لا تريد سوى راحته.
أرسلت له الهدايا بالفعل، وغضب سليمان ورفضها، وقرر الذهاب إليها بجيش كبير، فلما علمت بذلك قررت إنقاذ الموقف وأرسلت إليه أنها فى طريقها إليه، وهنا سأل سليمان عن أكثر ما يميز مملكتها فأجابوه بأنه عرشها، فسألهم عمن يستطيع أن يأتى به قبل أن تصل هى، فتسابقت عفاريت الجن على القدوم بالعرش فى أوقات أقل حتى انتصر أحدهم قائلا أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، فأمره سليمان أن يأتيه بالعرش وفعل، ولما أتت إليه بلقيس وجدت العرش كأنه لؤلؤ مبنى فوق مياه، فرفعت ثوبها خوفا من البلل، فسألها سليمان: هل هذا عرشك؟ فردت قائلة: «كأنه هو»، وهى إجابة تؤكد ذكاءها المعروف، فهى ترى عرشها لكنها تركته خلفها فى سبأ ولا يمكن أن يكون هنا فى مملكة سليمان، وهنا استسلمت بلقيس على الفور وآمنت بدين سليمان وداود على الفور، وعادت لقومها أخبرتهم بأنه نبى الله حقا، وأنها اتبعته وأن عليهم اتباعه، وبعد إعلان بلقيس إسلامها لم يخبرنا القرآن المزيد عن قصتها، ويقول البعض إنها تزوجت من سليمان بالفعل، بينما يقول البعض الآخر إنها تزوجت أحد جنوده، لكن النص القرآنى لم يخبرنا بشىء بعدها، وظلت هذه الأقاويل مجرد أقاويل لا يوجد لها دليل، إنما الدليل ثابت فى كل الكتب السماوية وفى كلام المؤرخين عنها بأنها ملكة تحسن التقدير وتتفهم وتحترم رأى الصغير قبل الكبير، لا تستخدم سلطتها فى الاستبداد بالرأى وتعمل بالمشورة، تستطيع تقييم موقف بلادها والبلدان الأخرى سياسيا وعسكريا، تدرس وتحلل تاريخ الأمم والملوك، وأخيرا ذكاؤها لا يتوقف عند حدود.