كان من أشد القضاة الرافضين لتولى منصب القاضى فى عصره، حيث إنه امتنع عن المنصب مرارًا وتكرارًا فاهتمامه بالعلم يجعله من كبار شيوخ أفريقيا آنذاك، حيث كان يهتم بحفظ الحديث، ويعد من أكثر المشايخ حفظًا له، إنه محمد بن العلاء بن كريب الهمدانى الكوفى المقلب بـ"أبو كريب".
اهتمام "أبو كريب" بالعلم بدأ فعلا وقولا، أما فى الجانب الخاص بالفعل فيتمثل فى جمعه العلم والحديث وتدوينه فى كتب مختلفة لينتفع بها من بعده، وأوصى بدفنها معه
وأبرز المواقف التى تدل على عدم سعى "أبو كريب" لتولى القضاء حينما أرسل إليه أمير أفريقيا وهى جزء من تونس والجزائر لتولى منصب مهم جدًا وهو منصب قاضى القضاة إلا أنه تمارض كى يعفيه الأمير من هذه المهمة، إلا أن الأمير تمسك به.
وحينما أتى "أبو كريب" إلى الأمير فتحدث إليه لكن "أبو كريب" لم يرد عليه، فقال له المتواجدون الأمير يسألك وأنت صامت، واستغرب المتواجدون بالمجلس من عدم استجابة "أبو كريب"، إلا أن الأمير قام على قدميه وأمر جلاسه أن يبتعدوا عنه، وقال له أكثر من مرة: والله يا أبا كريب ما أردت إلا الله عز وجل، وأن أجعلك حسنة بينى وبين الله عز وجل للمسلمين، وتكون لى عونًا على هذا الأمر، وتحكم بالحق على وعلى من حولي، فاتق الله عز وجل فيما دعوتك إليه من القيام بالحق فى وفى المسلمين، "أبو كريب" استغرب من حديث الأمير ورد عليه متسائلا: الله عز وجل أردت بذلك؟ فقال الأمير: نعم.. وكررها ثلاث مرات فقلب"أبو كريب" المنصب وأصبح قاضي القضاة.
اتصف "أبو كريب" بالتواضع أيضًا، ومن بين المواقف المذكورة التى تدل على ذلك أنه كان يسير مرة فى شوارع مدينة القيروان بحماره فاستوقفه خصمان للنظر فى قضية بينهما، فنزل من على حماره، وفصل بينهما فى القضية، وحينما هم ليركب الحمار وينصرف أراد أحدهما أن يمسك "سرج" الحمار كى يركب فرفض ذلك "أبو كريب".
"أبو كريب" فصل فى مظلمة امرأة ذات مرة وهو فى طريقه إلى المسجد، حيث توقف وجلس فى أحد دكاكين صناع السروج، ونظر فيها، ثم ركب حمار إلى المسجد فانصرفت المرأة صاحبة الشكوى وهى تقول: أصابت والله أمك حين سمتك غوثا أى "نصرا"، فأنت والله غوث كما سميت.
من بين المواقف التى تدل على عدم خوف "أبو كريب" من الأمراء وقضاؤه بالعدل فى كل وقت وحين حينما قدم إليه رجل يشكو له مظلمة عند الأمير وطلب منه أن يحضر معه إلى "أبو كريب" لكنه رفض، فقام القاضى العادل من مكانه وذهب معه بنفسه إلى الأمير وطلب من الحارس أن يعلم الأمير بقدومه إليه، فخرج له الأمير فقال له "أبو كريب" إن هذا الرجل يذكر أن له حقًا عندك، فادعى الخصم على الأمير بدعوى، فطلب "أبو كريب" من الأمير رده على ما قاله المدعى، فأنكر يزيد ما قاله الخصم، فطلب الخصم أن يحلف الأمير، فاستحلفه القاضى إلا أن الأمير رفض أن يحلف، فقال له القاضى: إنى أحكم عليك بعزوفك عن اليمين فأنصف القاضى الخصم، فقال الأمير حينئذ: الحمد لله الذى لم أمت حتى جعلت بينى وبين الله عز وجل من يحكم بين عباده بالحق، فرد على أبو كريب القاضى العادل قائلا: وأنا أقول الحمد لله الذى لم أمت حتى رأيت أميرًا يشكر الله عز وجل بالقضاء بالحق عليه، وقضى فى الأمر بحنكة وعدل من جانب القاضى "أبو كريب"، وبرضا من جانب الطرفين المتخاصمين.
الشيخ صالح محمد عبد الحميد عضو لجنة الفتوى بالأزهر، يقول إن أبو كريب، كان نموذجًا عظيمًا للقاضى المحب العلم الساعى إلى تحصيله، موضحًا أن موقف رفضه تولى منصب رفيع وهو قاضى القضاء لما عرض عليه من الأمير، يوضح مدى خشيته وخوفه من الله وأنه لا يسعى لمنصب ولا وجاهه ولا سلطان، حيث كان كل ما يشغل باله وفكره هو تحصيل العلم والسعى فى طريقه.
وأضاف أن سعيه فى طلب أشرف العلوم وأعظمها وهو طلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث إن علم الحديث الذى كان يطلبه هذا القاضى جعله يتذوق حلاوة العلم لأنه يبحث ويطلب ويتعلم كل مايتعلق بحديث رسول الله متنا وسندا ورواية ودراية، وكان طلبه وحبه للعلم ولطلب حديث رسول الله على وجه الخصوص سببًا فى أن يزهد المناصب كلها فلما عرض عليه منصب رفيع مثل قاضى القضاة رفضه وتهرب من الأمير وادعى أنه مريض حتى يعفيه من هذا الأمر.
وتابع صالح أن من بين المواقف عدم قبول القاضى منصب قاضى القضاة إلا بعد أن أقسم له الأمير مرارًا وتكرارًا أنه ما ختاره إلا لله عزوجل، وأن يكون سببًا فى قرب الأمير من ربه وخالقه، وأن يكون عونا للأمير على الحق مضيفًا: "سبحان الله موقف يدهش القلوب والعقول حقًا، حينما نتصور الأمير والحاكم وهو يقسم مرارًا وتكرارًا للقاضى أن ما اختاره إلا ليكون حسنه بينه وبين خالقه، وأن يكون عونًا له على الحق".
وأوضح، أن نزول القاضى من على حماره وفصله فى القضايا وهو يسير فى الطرقات تبرهن على تواضعه، وأنه عالم تقى نقي، بالإضافة إلى رفضه أن يمسك إحداهما بسرجه كى يمتطيه.
وشدد، على أن مواقفه تدل على أنه يسعى مع المظلوم حتى يسترد مظلمته ويسعى فى قضاء حوائج المسلمين، لعلمه وفقهه بحديث رسول الله والذى أكد فيه أن من أفضل الأعمال أن تسعى فى قضاء حوائج الناس، وأن تقف مع المظلوم حتى يسترد مظلمته.