نسير فى الحياة عبر رقعة كبيرة، مقسمة بالتساوى إلى مربعات، بعضها ناصع البياض، وبعضها قاتم سوادها، وعليها يقف البشر وفقًا لقلوبهم، فمنا من منحه الله قلبًا أبيض، وسيرة عطرة، فوضعه التاريخ فى موضعه على الرقعة البيضاء، ومنا من تملك السواد من قلبه، فكانت الرقعة السوداء مصيره، وبين كل هذا نسوة أثرن فى الحياة خيرًا وشرًا، ووقفن داخل الرقعتين أو تنقلن بينهما، ومن خلال هذه السلسة نحاول النظر إلى سيرتهن نظرة أخرى دون الحكم على واحدة منهن، أو التأثر بإيمانها أو كفرها، فقط تناول سيرتها كأنثى أثرت فى الحياة، ولكم وحدكم الحكم.
فى الإبداع قوة لا تضاهيها قوة، وفى الخيال حياة تهزم الموت، فإن أردت القوة افتح عقلك واترك العنان لخيالك، وقتها تستطيع أن تؤسس دولة قوية، وأن تقود جيشا باسلا، وأن تصنع اقتصادا مزدهرا، وأن تشيد عمرانا يترك بصمته فى العالم لسنوات، وأن تنافس وأنت على يقين بأن الفوز حليف لك، وأن تربى أجيالا تنهض وتبتكر فى شتى مجالات الحياة.. هذا ما أسست عليه زنوبيا، ملكة تدمر، قوتها لاستعادة بلدها من يد الرومان ليحكمها أبناؤها من العرب، وهذا ما حققته، فاستطاعت أن تسيطر مع زوجها الملك أذنيه، وقادت معه صراعًا ضد الإمبراطورية الرومانية لاسترداد الحكم منها، ونجحت فى ذلك، معتمدة على الإبداع والخيال.
لم تكن زنوبيا كأى فتاة عربية تعيش فى تدمر، فهى كانت مختلفة منذ صغرها، فهذا والدها عمرو، الذى ولد فى البادية، ثم ذهب للعمل فى تدمر والتحق بمجلس الشيوخ، وكانت له قوافل تجارية، وشراكة مع بعض رجال تدمر، لكنه وزنوبيا لم يكونا على وفاق، فقد كان الرجل يكره كونه عربيا، ويتمنى أن يكون من أصل رومانى نقى الدماء، وكان يحلم بأن يزوج ابنته زنوبيا لرجل رومانى يرتقى بعرقها، وهذا ما كرهته زنوبيا تماما، فوفقا لرواية «الأوراق السرية لزنوبيا ملكة تدمر» للكاتب برنار سيميوث، فإن زنوبيا كانت تعتز بأصولها العربية، ولم تحلم يوما بمخالطة اليونان، بل على العكس، كل ما تمنته هو استعادة الحكم فى دولتها تدمر من أيدى الإمبراطورية الرومانية، وحكمها بواسطة عربى من أبنائها، وهو الحلم الذى سعت إلى تحقيقه بالثقافة والتعلم، فقد درست فى الإسكندرية تاريخ الشعوب، خاصة تاريخ اليونان والرومان والفرس، واجتهدت فى تعلم أصول السياسة والحكم وقيادة الجيوش، حتى صارت قوية فى كل ذلك، ثم وجدت فى أذنيه، والى تدمر، الذى يحكم تحت لواء الإمبراطورية الرومانية فرصة فى ذلك، فتزوجته وقادت معه الثورة على الرومان.
وعلى الرغم من اختلاط الخيال بالحقيقى فى رواية «الأوراق السرية لزنوبيا»، والتى زعم كاتبها أن الملكة قد أقدمت على تدوين مذكراتها قبل انتحارها فى روما، فإنه يمكننا وبشكل كبير أن نعتمد على هذه الرواية فى معرفة زنوبيا وتاريخها، حيث إن ما ذكره الكاتب على لسانها مذكور بالفعل عنها فى العديد من المراجع التاريخية، ويمكننا بكل سهولة استنباطه من الوقائع التاريخية الثابتة فى قصتها، والمثال على ذلك أنها أثناء حكمها، وفقا للرواية، جمعت قادة تدمر، وكانت وقتها شريكا أساسيا فى الحكم، وتحدثت إليهم بشأن إنشاء جيش مستقل بتدمر بعيدا عن الجيش الرومانى، وهنا اعترض القادة أجابتهم زنوبيا وفقا للرواية: «إن القوة تكمن فى الإبداع، مصدر قوة الرومان هو قدرتهم على التخيل، أما نحن فلا نستطيع نقش تمثال وتتوقف أدمغتنا عند مشاهدته دون أن نترك العنان لخيالنا، رغم أننا مبدعون بالأساس، فقط ينقصنا الخيال»، هنا يمكننا التأكد من هذه النظرية التى اعتمدت عليها، حتى وإن كان نص المقولة غير دقيق، لكن الثابت تاريخيا أنها عندما أرادت الاستقلال بتدمر درست تاريخ اليونان والرومان ودرست الفنون، والثابت تاريخيا أيضا أنها شكلت جيشا قويا قادت به ثورة على الإمبراطورية الرومانية وانتصرت فى ثورتها، والثابت تاريخيا أيضا أنها أنشأت فى عهدها ما يشبه وزارة الثقافة تحت إشراف أحد قادتها، ويدعى لونجيان، وأمرته باستقدام الفلاسفة والشعراء والنحاتين من كل بقاع العالم للعمل فى بلاطها، فهى سيدة لم تعتمد أبدا على القوة والسياسة والمناورة قدر اعتمادها على الإبداع والثقافة والتنوير لإنشاء مملكة قوية.
كل هذه الأسباب تجعل من زنوبيا ملكة قوية يحبها الشعب ويحترمها القادة من الجيش ومجلس الشيوخ، وبعد أن مات زوجها أذنيه لم يتوقف حكمها، حيث أعلنت حكم ولدها «وهب اللات» تحت ولايتها لصغر سنه، واستمرت فى الحكم. وربط البعض بينها وبين ملكة مصر كليوباترا، خاصة مع اعتماد بعض الروايات على أن زنوبيا هى حفيدة كيلوباترا من ناحية الأم، وأن أهل تدمر أطلقوا عليها «كليوباترا الجديدة»، خاصة أنها ولدت وتعلمت فى الإسكندرية، وكان لديها نفس الطموح فى السلطة، بالإضافة إلى موتها منتحرة هربا من بطش الرومان والتنكيل بها، وهو نفس المصير الذى قررته كليوباترا لنفسها، فبعد وفاة زوجها، توسعت أحلامها من حكم تدمر لحكم كل الولايات الرومانية، وأن تعتلى هى عرش روما، فأشرفت على الجيش ولبست لباس الفرسان من الرجال وقادت عمليات التوسع، والغريب فى الأمر أنها نجحت فى إنشاء حضارة قوية، وهو ما دفع روما للقلق منها وإعلان الحرب تحت قيادة أورليان، الذى خطط للقضاء عليها جيدا، فأعلن فى البداية دعمه لها، واعترف لها بالنفوذ على الإسكندرية، وظلت زنوبيا تظن أنه صديق بعد أن أبرما اتفاقا على أن تلتزم زنوبيا بحدود مملكتها مقابل أن تصدر العملة الخاصة بمدينة تدمر، وصكت النقود فى إنطاكية، وطبعت عليها صورة «وهب اللات» على وجه وعلى الوجه الثانى صورة الإمبراطور أورليان، وميزت النقود السورية التدمرية عن نقود روما، بينما انشغل أورليان بتوسيع مملكته فى آسيا، فحقق انتصارات كبيرة وتوسع نفوذه، حتى مات ولدها «وهب اللات»، فاجتاحها الحزن عليه وضعفت تماما، وكانت مسلوبة الإرادة، وتشتت ذهنها، فوجد أورليان فرصته فى التخلص منها، وخان عهده معها قبل أن يمر العام، وهدد تدمر بالسيطرة عليها من جديد واقتحامها ضمن غزواته فى آسيا، وكان هدفه واضحا، القضاء على زنوبيا التى تهدد عرشه فى روما، وقد شهد أورليان بالقوة رغم كراهيته لها، فهناك مقوله شهيرة له إن «الشعب الرومانى يتحدث بسخرية عن حرب أشنها ضد امرأة، ولكنه لا يعرف مدى قوة شخصية هذه المرأة ومدى بسالتها»، فأعلن الحرب عليها وهو ما دفع زنوبيا بجمع جيوشها فى تدمر لمحاربة أورليان، لكن خذلها خصومها فى حمص، ولم يدعموا جيوشها، فلاحقها أورليان واستنجدت بالفرس، وذهبت متخفية لملكهم لعقد اتفاق معه على التحالف ضد الرومان وأورليان، لكن الجيش الرومانى علم بأمر تخفيها وتعقبها وهى فى طريقها، فقبضوا عليها وكبلوها وأخذوها لخيمة أورليان، ووفقا لبعض الروايات فقد عرض عليها إمبراطور روما الاستسلام والتنازل عن العرش لكنها رفضت، فعاد بها إلى روما أسيرة بعد أن قتل عددا كبيرا من رجالها، وعاشت هناك فترة، واختلف المؤرخون حول موتها، فالبعض يقول إنها عاشت أسيرة فى روما وماتت بعد بضع سنوات فى غموض، بينما يرجح البعض، وهم الأغلبية، أنها قررت الموت عن حياة الذل فى روما، فشربت كأسا من السم لتموت بعزة دون حياة الذل.