خرج الملايين فى مصر والعالم العربى إلى الشوارع يرفضون قرار عبدالناصر بالتنحى الذى أعلنه فى خطابه مساء 9 يونيو 1967.. «راجع- ذات يوم 9 يونيو 2018»، وينقل محمد حسنين هيكل، ردود الفعل فى مصر والعالم أجمع، مؤكدا فى كتابه «الانفجار» أن «محيى الدين» اتصل به وكانت دهشته بالغة، وكانت أول عبارة صدرت عنه هى سؤاله عن هذا الذى فعلناه به؟ وطلب على الفور إذاعة بيان بأنه اعتذر عما كلف به، ومستعد لمواصلة دوره تحت قيادة جمال عبدالناصر، وهو ما يطالب به الناس جميعا، فرد هيكل بأنه ليس فى إمكان أحد أن يفعل شيئا قبل الصباح.
رد زكريا: «بهذا الشكل لن يطلع صباح»، ثم تحدث عما يجرى فى الشوارع ليس فى القاهرة فقط، وإنما فى كل مكان فى مصر، يضيف هيكل: «كنت بنفسى قادرا على رؤية مدى الصدق فى قوله من نظرة واحدة عبر النافذة إلى كوبرى الجلاء، فقد أصبحت الجماهير عليه كتلة واحدة متدفقة هادرة زاحفة لا تعرف إلى أين، ولكن صراخها كان يمكن تمييزه الآن بصيحة: ناصر»، يضيف هيكل: «بدأت التقارير ترد من كافة أنحاء مصر بأن جماهير لا تحصى ولا تعد أوقفت قطارات السكك الحديدية، واستولت على أكثر من مائة وعشرين قطارا، وأن زحف هذا كله متجها إلى القاهرة، وكان تعليق وزارة الداخلية أن «الأمن فى الصباح سوف يفلت بالكامل إذا لم يطرأ جديد».
بدا عبدالناصر مستغربا من المشهد، واتصل بهيكل يسأله، فروى له صورة ما يحدث فى مصر والعالم العربى، يؤكد هيكل: كان سؤاله المتكرر: «ليه؟، وراح يرددها مستغربا»، ويضيف هيكل، أنه أمام هذه التطورات أصدر عبدالناصر بيانا إلى الجماهير قال فيه، إنه سيذهب غدا إلى مجلس الأمة ليناقش معه ومع جماهير شعبنا قراره الذى أعلنه، وناشد الجماهير الانتظار حتى الصباح.
اتصل عبدالناصر بهيكل فى الساعة الخامسة والربع صباح يوم 10 يونيو «مثل هذا اليوم»، طالبا منه المجىء إليه، ويتذكر هيكل: «نزلت من بيتى، وكانت كل الطرق فى تلك الساعة مسدودة وبخاصة فى ميدان التحرير، وتمكنت من الوصول إلى «الأهرام» بصعوبة بالغة، واتصلت به أقول إننى سوف أتأخر رغم إرادتى لأن الطرق كلها مغلقة.. نزل عبدالناصر إلى مكتبه فى بيته، وكان المكتب مزدحما ببرقيات ورسائل، واستلفت نظره ثلاث رسائل بوجه خاص من أمين عام الأمم المتحدة «يوثانت»، والرئيس الفرنسى «ديجول»، وزعماء الاتحاد السوفيتى الثلاثة «بريجنيف، كوسيجين، بادجورنى»، قال ديجول فى رسالته: «إن النصر والهزيمة فى المعارك عوارض عابرة فى تاريخ الأمم، وما يهم هو الإرادة، وفرنسا فى وقت من الأوقات كما تتذكر كان نصفها تحت الاحتلال المباشر للنازى، ونصفها الآخر خاضعا لحكومة عميلة، ولكن فرنسا لم تفقد إرادتها وظلت طوال الوقت تسير واثقة وراء قيادتها المعبرة عن إرادتها، إن الشجاعة الحقيقية هى فى مواجهة المحن، وأما الأوقات السعيدة فإنها لا تستدعى هذه الشجاعة، إن سلام العالم العربى يقتضى جهودك، وأنا أول من يتفق معك على أن الأمر الواقع الذى عندكم الآن لا يعطى أساسا صحيحا لمثل هذا السلام».
كانت رسالة القيادة السوفيتية هى الأكثر أهمية وفقا لهيكل، وتنص على: «إننا لندرك خطورة الوضع الذى نشأ عندكم فى البلاد نتيجة للعدوان الإسرائيلى، ومؤامرات الدول الاستعمارية، وفى هذه اللحظة العسيرة والمسؤولة، وبناء على اقتناعنا العميق فإننا مقتنعون بأنه لا يجب عليكم أن تتركوا بلادكم دون قيادتكم.. الصديق العزيز ناصر.. إنكم تتمتعون بسمعة ضخمة فى العالم العربى، وإن الشعوب العربية كلها تثق فيكم، وأصدقاؤكم يحترمون نضالكم وشخصكم، وأنتم باستمراركم فى منصبكم رئيسا تستطيعون العمل، ويجب أن تعملوا كل الممكن من أجل المحافظة على ثورتكم وشعبكم، إن العالم العربى والقوى التقدمية فى العالم العربى كله سوف لا يفهمون ولا يوافقون على تنحيكم عن قيادة البلاد فى هذه اللحظة العصيبة والمسؤولة، ونحن مستعدون لبحث الخطوات المشتركة لحل جميع المشاكل الاقتصادية والعسكرية فى أى وقت ترونه»، واتصل به الرئيس الجزائرى هوارى بومدين تليفونيا يقول له: «إنك طلبت منى أن أذهب إلى موسكو، وأنا أستعد للذهاب هناك فى ظرف ساعات، لكن خروجك من قيادة مصر لا يجعل لذهابى أى قيمة لأنه سيعطى للجميع الإشارة الخاطئة بأن اليأس أصابنا». توجهت الأنظار إلى مجلس الأمة حيث سيذهب عبدالناصر، وعندما قاربت الساعة العاشرة صباحا كان باديا أن القاهرة فى حالة غليان، وأن الطرق إلى المجلس مغلقة ولا سيطرة عليها لأحد، فكانت فكرة إرساله رسالة ليتلوها رئيس المجلس أنور السادات على النواب الذين كانوا متحصنين فيه منذ إعلان قرار التنحى.