"إذا رأيت الهدية تدخل دار قاضي ، فاعلم أن الأمانة قد خرجت منها"، مقولة تاريخية قالها القاضى البليغ عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافرى الإفريقي كانت بمثابة نبراسا للعشرات بل للمئات من القضاة، وضعوها مقياسا لمعاملاتهم مع الأفراد، وخاصة المتعاملين معهم باستمرار منعا للتشكيك فى أحكامهم.
"بن زياد" يعد أول مولود رأى النور بعد دخول الإسلام "إفريقية"، وعاش فى ثلاث مناطق هى مصر وإفريقية والكوفة بالعراق، إلا أنه تولى قاضى القضاة بإفريقية وعاش بها حتى الممات.
"بن زياد" تعلم على يد كبار العلماء، حيث بلغ عدد معلميه حوالى 15 معلما اكتسب منهم كافة أنواع علوم الحديث وغيرها التى استند إليها فى القضاء، كما نقل هذا العلم إلى العشرات من تلاميذه.
من بين المواقف التى تدل على عدم خوفه من الحاكم، حينما ظهر بإفريقية ظلم من السلطان، فذهب "بن زياد" إلى السلطان، واشتكى العمال إليه من هذا الظلم، وأقام "بن زياد" بباب "أبى جعفر" شهرا ثم دخل عليه، فسأله السلطان ما الذى جاء بك ، فرد عليه قائلا: ظهر الظلم ببلدنا فجئت لأعلمك لعل الظلم يخرج من دارك، فغضب السلطان غضبا كبيرا، وأمر بإخراجه من مجلسه.
من بين الروايات الأخرى التى تدل على أن "بن زياد" لم يكن مواليا ذات يوم للسلطان، حيث ذخب إليه ذات مرة ووجد معه وزيره ويدعى "الربيع" فسأله السلطان أبو جعفر قائلا: يا عبد الرحمن كيف ما مررت به من أعمالنا إلى أن وصلت إلينا؟ ، فرد عليه القاضى قائلا: يا أمير المؤمنين رأيت أعمالا سيئة وظلما فاشيا ظننته أبعد البلاد منك فجعلت كلما دنوت منك كان أعظم للأمر.
السلطان أبو جعفر نكس رأسه طويلا ثم رفعه قائلا: كيف لي بالرجال ؟ فرد عليه القاضى قائلا: أفليس عمر بن عبد العزيز كان يقول : الوالي بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها، فإن كان برا أتوه ببرهم وإن كان فاجرا أتوه بفجورهم، فأطرق طويلًا فقال: لي الربيع "أى الوزير" وأشار إليه كى يخرج من مجلسه فخرج القاضى " بن زياد" ولم يعد إليه مرة أخرى.
الشيخ صالح محمد عبد الحميد عضو لجنة الفتوى بالأزهر، يقول إن القاضي عبد الرحمن بن زياد كان نموذجا فريدا للقاضي الذي يخشى الله ويتقيه فكانت النزاهة والتعفف عما فى أيدى الناس، والملوك، والسلاطين، موضحا أن مقولته "إذا رأيت الهدية تدخل دار قاضى فاعلم ان الأمانة خرجت منها" تكتب بماء الذهب.
"عبد الحميد" فند موقف القاضى حينما وقف شهرا كاملا بباب السلطان جعفر من أجل نصرة المظلوم، ومحاربته للظلم، موضحا أنه لم يبال بغضب السلطان لإيمانه بقيمة رفع الظلم عن كل مظلوم، حيث عرف واشتهر عنه محاربته للظلم، ووقوفه مع المظلوم.
وأضاف"عبد الحميد"، أن القضاء هو معيار العدالة وليس من حقّ القاضى أن يظلم ، ويجب أن يكون القضاء سلطةً مستقلة، وأن يكون للقضاء مصداقية لدى المجتمع لكي يطمئن الجميع لحكم القضاء وعدالته، حيث أن أهم شرط فى القاضى النزاهة والاستقامة والشجاعة والتعفف، عما فى أيدى الملوك والسلاطين، متابعا: لذلك نجد أنه لا سلطة على القضاء لأنَّه يمثل الحق ويحمى العدالة، حيث أن القاضى الذى يبيع ضميره بالمال، ويقبل الرشوة، ويستخدم سلطته لظلم أصحاب الحقوق، وحرمانهم من العدالة هو شرّ الناس ، ويجب أن يحاسب حسابا عسيرا في الدنيا، ولا تُقبل له توبة أبداً، لأنّ حقوق الناس وظلمهم لا يسقط بالتوبة والندم.
وفسر "عبدالحميد" موقف القاضى حينما أكد للسلطان تفشى الظلم، أنه لا يحابي، ولا يجامل السلطان علي حساب الحق والعدل، بل واجه السلطان بالظلم المتفشي لما سأله عن رأيه فيما يدور ببلاده، وكان صريحا وقويا في الحق كما رأينا ولم يجامل ولم يكذب، ولما لم يستمعوا لما قاله، وأشاروا إليه بالخروج، خرج ولم يعد مرة أخرى.