كانت الساعة السادسة، مساء السبت الموافق يوم 4 يوليو «مثل هذا اليوم عام 1953»، حين بدأ إرسال «صوت العرب» كبرنامج إذاعى لمدة ثمانية وعشرين دقيقة يوميا قبل أن يتحول إلى إذاعة مستقلة، وأصبح البرنامج ثم الإذاعة الأقوى تأثيرا فى الرأى العام العربى خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضى، والوسيلة الإعلامية التى يلتف حولها كل العرب فى معركتهم من أجل التحرر من الاستعمار.
فى مذكراته غير المنشورة التى ساهمت فى مراجعتها معه يتذكر رئيسها الإعلامى الراحل أحمد سعيد، الذى اقترن اسمه بها فى سنوات مجدها تفاصيل أول يوم: «بدأت بنشيد.. أمجاد ياعرب أمجاد/ فى بلادنا كرام أسياد..» تلته كلمة رئيس مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952 اللواء محمد نجيب، ثم نشيد «النصر لنا» الذى تلته كلمة أمين عام جامعة الدول العربية عبد الخالق حسونة، وانتهى البرنامج بحوار مع الموسيقار محمد عبد الوهاب حول دور الأغنية فى خدمة القضايا العربية، مع نماذج من أعماله مثل «إلاما الخلف بينكمو إلاما».. و«فلسطين أخى جاوز الظالمون المدى».. و«دمشق سلام من صبا بردى أرق».
سبق هذا اليوم استعدادات لتحويل الفكرة من حلم إلى حقيقة، ويذكر صاحبها فتحى الديب، ضابط المخابرات المصرية، قصة ولادتها، قائلا فى كتابه «عبد الناصر وتحرير المشرق العربى»، إنه فى نهاية أكتوبر 1952 قرر جمال عبد الناصر نقله من وحدة المظلات التى كان قائدا لها، إلى جهاز المخابرات العامة الجارى إنشاؤه، والتقى بزكريا محيى الدين المكلف بتأسيسه، وأبلغه زكريا باختياره لمهمة إنشاء فرع الشؤون العربية، وطالبه بوضع خطة تحرك لسياسة ثورة 23 يوليو العربية، وتتضمن «ربط الوطن العربى بكل ساحاته بالقاهرة لتحرير الأجزاء المحتلة منه»، وأعد «الديب» دراسته، وناقشه فيها «محيى الدين» ثم «عبد الناصر» فى منزله، ومن بنودها: «إنشاء إذاعة خاصة تتفرغ تفرغا كاملا لتغطية شؤون الوطن العربى، واقترحت لها اسم «صوت العرب».
بدأ«الديب» فى البحث عن العناصر التى ستطلق فكرته، وتوجه إلى مبنى الإذاعة فى شارع الشريفين وسط القاهرة يوم 31 مارس 1953، وفقا لأحمد سعيد الذى يروى فى مذكراته قصة لقائهما لأول مرة فى هذا اليوم وماحدث فيه، قائلا: «مد فتحى الديب يده إلى حقيبته الجلدية، وفتحها وأخرج منها ظرفا أبيض متوسط الحجم وأخرج منه ورقة واحدة معنونة من مجلس قيادة الثورة- مكتب السيد رئيس المجلس، وموجهة إلى اللواء محمد كامل الرحمانى مدير الإذاعة تطلب منه البدء فى الإعداد لتوجيه برنامج يومى موجه إلى الشعوب العربية، يشرح لها الأهداف القومية والمبادئ التحررية التى قامت من أجلها الثورة المصرية ويكون ذلك فور الانتهاء من فترة الإعداد».
هكذا عرف أحمد سعيد سر مهمة «الديب»، وعرف أنه المرشح لها، ويؤكد أن خطاب «الديب» للإذاعة تضمن سطرا ونصفا فقط لكنه ثابت فى ذاكرته، وتقول كلماته: «تقديم برنامج يومى يشرح للعرب أهداف الثورة فى تحرير البلاد العربية واسترداد ثرواتها وإقامة وحدتها»، ويؤكد: «تمت بلورة كلمات السطر والنصف فى اجتماع ضم «الديب» وعزت سليمان من المخابرات، وصالح جودت وأنا «سعيد» عن الإذاعة، وجرى اعتمادها من زكريا محيى الدين ثم جمال عبد الناصر فى مايو 1953، حيث استقرت أهداف صوت العرب على:
أولا: الدعوة إلى الاستقلال الكامل للبلاد العربية من الخليج إلى المحيط، وتحررها عسكريا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا.. ثانيا: الدعوة إلى التضامن العربى نضاليا من أجل استقلال الكل بما فى ذلك فلسطين..ثالثا: الدعوة إلى غرس وتغليب الفكر القومى على النزعات الإقليمية والمذهبية الانفصالية، ودعم المضامين التاريخية والقدرات التبادلية الموروثة والعصرية وبيان المصلحة المشتركة الحياتية المصيرية».
طلب سعيد من الديب الاستعانة بالمذيعة نادية توفيق لتنضم إلى أسرة البرنامج، وحسب الديب: «بدأنا نمارس التجربة اليومية فى الاستديو داخليا لمدة خمسة عشر يوما تقريبا، لنعدل ونصحح الأخطاء أولا بأول، حتى اطمأننا إلى إمكانية بث البرنامج على الهواء، وقررنا لذلك مساء يوم 4 يوليو 1953، وأعددنا كل شىء وأبلغت جمال عبد الناصر، وجاء اليوم ومرت ساعات النهار طويلة مثيرة للأعصاب، وشعرت شعور الأب الذى ينتظر وليده، ولم أجرؤ على البقاء فى الاستديو ولا بمنزلى فخرجت إلى مكان آخر انفردت فيه بنفسى، وحان الوقت واستمعت إلى دقات قلبى فى أذنى، وبدأ «صوت العرب» يرى النور على الهواء، مرددا صوت العروبة بآلامها وآمالها، ولم أكن ولم يكن يتصور الكثيرون معى أن هذا الصوت سيكون له هذا الشأن والخطورة والدور الريادى فى تحريك مشاعر الجماهير العربية لتلتحم بفكر ثورة 23 يوليو، كما لم أتصور أنه سيكون المطرقة التى ستقض مضاجع الاستعمار».