لا تخلو الأخبار اليومية من الحديث عن قرارات ترامب الحمائية التى تهز الاقتصاد العالمى، والتى أصبحت مثار جدل ليس فقط بين الدول المتأثرة سلبا بالقرارات، ولكن أيضا كافة دول العالم التى تحاول الاحتماء بمنظمة التجارة العالمية ضد قرارات ترامب. فهل تصمد منظمة التجارة العالمية أمام مخططات ترامب فى إشعال الحروب التجارية؟
البداية كانت فى مطلع مارس الماضى، عندما فرض الرئيس الأمريكى دونالد ترامب تعريفة جمركية مرتفعة على واردات الولايات المتحدة من الصلب بواقع 25%، ومن الألومونيوم بواقع 10%، وهو ما أثار حفيظة الكثير من الدول الموردة لهذه السلع وعلى رأسها كندا والمكسيك وروسيا ودول الاتحاد الأوروبى، ولكن لم يكن هذا كافيا لوقف أو تعديل قرارات الرئيس الأمريكى التى رأى المجتمع الدولى أنها ستمثل كارثة على الاقتصاد العالمى، إذا ما تطور الأمر إلى حروب تجارية بقرارات أمريكية وقرارات مضادة.
ما سبق كان مجرد بداية، تبعه تصعيد أمريكى جديد يستهدف التنين الصينى على وجه التحديد وهو تهديد بفرض رسوم جمركية على واردات صينية بقيمة تصل 50 مليار دولار، وهو ما ردت عليه الصين بالتهديد بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على قائمة من الواردات الأمريكية تصل قيمتها 100 مليار دولار، وظلت حرب التهديدات مشتعلة حتى وصلت المفاوضات بين البلدين لتعهد صين بتغيير سياستها التجارية وعدم استهداف ميزان تجارى لصالحها، وهو ما واجه ارتياحا أمريكيا وعالميا على حد سواء.
بعد هدوء الأوضاع بين أمريكا والصين، فتح ترامب جبهات معارك أخرى ضد عدد كبير من دول العالم على رأسها دول الاتحاد الأوروبى وروسيا والمكسيك وكندا والنرويج بقرارات حمائية مماثلة، وتهديدات جديدة من ترامب بفرض رسوم جمركية على وارداتها من السيارات الأوروبية، ورد أوروبى بدراسة قرارات مماثلة ضد الولايات المتحدة، حال عدم التراجع عن فرض رسوم على واردات الصلب والألومنيوم.
بخلاف التهديدات والتصريحات العدائية المتبادلة بين الولايات المتحدة من جهة، والدول المتضررة من قرارات ترامب من جهة أخرى، لجأ المتضررون بشكاوى إلى منظمة التجارة العالمية ضد أمريكا، التى تخالف سياساتها الحمائية قواعد منظمة التجارة العالمية التى تقوم على حرية التجارية وتخفيف القيود الجمركية لتسهيل انسياب التجارة العالمية.
الشكاوى التى تلقتها منظمة التجارة العالمية شملت دول الاتحاد الأوروبى، وروسيا، والصين، والهند، وكند، والمكسيك، والنرويج، تتهم فيها الولايات المتحدة بنتهاك قواعد منظمة التجارة العالمية من خلال فرض الرسوم الجمركية.
وتأسست منظمة التجارة العالمية عام 1995 بعد مفاوضات متعددة مثلت الولايات المتحدة أحد أهم قاداتها، وهى تكليلا للجهود الدولية بعد الحرب العالمية الثانية لتشكيل نظام جديد للتجارة العالمية يقوم على حرية التجارة وتخفيض الرسوم الجمركية، ولكن يبدو أن الدور الأمريكى قد تبدل كثيرا الآن، لتتحول الولايات المتحدة من أكبر داعم ومؤسس فى المنظمة إلى هجوم حاد على سياساتها دون تقديم بدائل، وتضم المنظمة فى عضويتها 164 عضو يمثلون 98% من التجارة العالمية، وتخاطب 22 دولة حاليا المنظمة، للانضمام إليها، طبقا للبيانات المنشورة على موقعها الرسمى على الإنترنت.
محاولات تقويض منظمة التجارة العالمية بدا واضحا للعيان من حوالى عامين فى التصريحات التى أطلقها ترامب أثناء حملته الانتخابية عام 2016 والتى أكد فيها أن مصلحة أمريكا التجارية أهم من أى شئ آخر، وأكدها كبير المستشارين الاقتصاديين للبيت الأبيض لارى كودلو فى تصريحات له بمؤتمر صحفى أوردته وكالات الأنباء فى يونيو الماضى، قال فيها: "سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تتحدد وفقا للمصلحة القومية وليس حسب قواعد منظمة التجارة العالمية".
ولكن رغم ذلك رفعت الولايات المتحدة شكاوى إلى منظمة التجارة العالمية احتجاجا على ممارسات صينية ودول أخرى، ولكن تشير تسريبات إلى دراسة أمريكا لقانون جديد يمنح ترامب حق فرض رسوم جمركية بأى قيمة يريدها، وهو ما يعنى تقويضا واضحة للمنظمة وخروجا أمريكيا يهدد النظام العالمى الذى عملت الدول على إرسائه منذ سنوات طويلة.
التطورات الأخيرة جعلت مؤسسة فيتش للتصنيف الائتمانى تصدر تحذيرا من تصاعد التوتر التجارى بين أمريكا وحلفائها والرد الانتقامى على القرارات الأمريكية، وهو ما يمكن أن يؤثر على ما يقرب من 2 تريليون دولار من التدفقات التجارية العالمية بحسب تقديراتها.
فى ظل الصراع التجارى العالمى الدائر، حذرت منظمة التجارة العالمية من عدم التزام أعضائها بالتعريفة الجمركية عند النسب المنخفضة وإذا تآكل نظام تسوية المنازعات، فإن العواقب ستكون "دراماتيكية"، وفقا لكلمة مدير المنظمة روبرتو أزيفيدو بكلمته الافتتاحية للتقرير السنوى للمنظمة عن عام 2017 الصادر فى 31 مايو الماضى، والمنشور بموقع المنظمة على الإنترنت.
أزيفيدو قال أن تصعيد هذا التوتر العالمى قد يتسبب فى تراجع نمو التجارة العالمية الذى شهد أكبر نمو العام الماضى منذ 2011، مؤكدا على لعب المنظمة لدورها فى تعزيز التعاون التجارى الدولى، وهو ما فعلته من قبل وبدون هذا الدور لكان العالم شهد موجة من الإجراءات الحمائية وقت الأزمة المالية العالمية عام 2008.
وتشير دراسة صادرة عن مركز جيل البحث العلمى فى الجزائر بتاريخ 2 مايو الماضى، بعنوان "مستقبل منظمة التجارة العالمية فى ظل إجراءات ترامب الحمائية"، إلى أن مستقبل منظمة التجارة العالمية يبقى مرهونا بالقرارات التي سوف تتخذها الولايات المتحدة الأمريكية مستقبلا بشأن هذه الإجراءات الجمركية، إما الاستمرار في تطبيقها أو القيام بتعديلها بما يتناسب مع شروط منظمة التجارة العالمية، أو بإلغائها نهائيا.