أبحرت الباخرة «الحرية» فى المياه من جزيرة «بريونى» فى يوغسلافيا «قبل تفكيكها» فى طريقها إلى الإسكندرية، وعلى متنها الرئيس جمال عبدالناصر والوفد المرافق، ليلة 15 يوليو «مثل هذا اليوم 1958».. كان عبدالناصر فى زيارة إلى يوغسلافيا للقاء زعيمها الرئيس تيتو، وهناك استمع إلى البيان الأول للثورة العراقية من راديو بغداد فى الساعة السادسة صباحا يوم 14 يوليو، فقرر العودة إلى القاهرة ليكون قريبا من مسرح الأحداث، حسب تأكيد محمد حسنين هيكل فى كتابه «سنوات الغليان»، وحملت رحلة العودة مفاجآت، ومناورات، وتحركات سرية فى عدة عواصم عالمية، يكشف عنها هيكل الذى كان مرافقا لعبدالناصر فى هذه الرحلة، والدكتور محمود فوزى، وزير الخارجية المصرية.
كانت هذه المفاجآت بحجم أهمية الثورة العراقية التى قام بها تنظيم «الضباط الأحرار» العراقى، بقيادة عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف ضد النظام الملكى، فحسب أحمد حمروش فى كتابه «ثورة 23 يوليو»: «كانت انفجارا مدويا فى الشرق الأوسط، اهتزت له أرجاء العالم، وبادرت القوى المختلفة تراجع حساباتها، وتواجه الموقف الجديد الذى نشأ بعد ست سنوات من ثورة مصر، وفى أقل من سنتين على العدوان الثلاثى على مصر 1956.. كان وقوع الانفجار فى مقر حلف بغداد أكثر مما تحتمله أعصاب الإمبريالية، لأنه كان يعنى بالتأكيد رجحان كفة الحرب الأهلية فى لبنان لصالح الوطنيين، وانهيار الحكم فى الأردن، ولذا نزل الأسطول الأمريكى فى بيروت يوم 15 يوليو، وهبطت قوات المظلات البريطانية فى الأردن قادمة عبر إسرائيل لتنقذ عرش الملك حسين بعد تمزق الاتحاد بين العراق والأردن»، وقام هذا الاتحاد ردا على الوحدة بين مصر وسوريا فى 21 فبراير عام 1958.
يؤكد هيكل أن الثورة العرقية «أدت إلى أزمة دفعت العالم إلى حافة الهاوية، وكانت موضوع الحديث الدائر بين جمال عبدالناصر وتيتو، وهما معا فى القارب السريع الذى راح يجرى فوق الموج متجها إلى الباخرة «الحرية»، وعندما صعدا إليها جرت مراسم وداع سريعة، ثم تعانق الرئيسان وداعا، ونزل المارشال تيتو إلى القارب عائدا إلى بريونى، وأطلقت قطع القافلة البحرية صافراتها تحية له، واستعدادا للرحيل.. كانت حول «الحرية» أربع مدمرات حربية، اثنتان ترفعان علم الجمهورية العربية المتحدة «مصر وسوريا»، واثنتان ترفعان علم يوغسلافيا.. ابتعد شاطئ بريونى، ودخل عبدالناصر من سطح الباخرة إلى غرفة المكتب فى الجناح الرئيسى عليها، وراح يقرأ البرقيات التى تجمعت، ولم يطلع عليها فى الفترة التى استغرقها الانتقال من فيلا بريونكا إلى الباخرة «الحرية»، يضيف هيكل: «تحول الجناح الرئيسى على الباخرة الحرية إلى شبه غرفة عمليات، ففى ساعات قليلة كان مكتب الاتصالات الشفرية على الباخرة قد تلقى وأرسل 172 برقية شفرية، كأن الباخرة كانت فى مجراها على أمواج الأدرياتيكى فى حوار متصل مع القاهرة ودمشق».
يؤكد هيكل: «مع أول بشائر الصباح تلقى مكتب الاتصالات الشفرية على الباخرة أول إشارة عن نزول القوات البحرية الأمريكية إلى الشواطئ اللبنانية قرب بيروت، ومع الغروب وبعد نهار حافل بزحام المشاكل والمشاغل، أقبل قائد الباخرة يطلب مقابلة الرئيس عبدالناصر، ليقول له إن الضابط البحرى الكبير المكلف بقيادة مدمرات الحراسة اليوغسلافية يقترح مراعاة حالة إطفاء كامل على كل قطع القافلة بما فيها «الحرية»، وأضاف أن هذا القائد أبلغه بأنهم رصدوا بعض محاولات الاستطلاع الجوى، ونزل الليل وقطع القافلة كلها كأنها كتل من الظلام تجرى على سطح البحر المظلم، وفى الساعة التاسعة مساء بدأت المدمرة اليوغسلافية التى تحمل رقم 62 تبعث بإشارات بالأضواء، تقول: نطلب توقف القافلة.. نريد إرسال قارب إلى الباخرة «الحرية» يحمل رسالة مهمة من الرئيس تيتو إلى الرئيس جمال عبدالناصر، وفوجئ الواقفون على سطح «الحرية» بقارب بمجداف يسرى فى ظلام الليل من المدمرة إلى «الحرية»، وكان تعليل اليوغسلاف أنهم اختاروا هذه الوسيلة تأكيدا للأمن لأن أصوات محركات القوارب السريعة يمكن رصدها بأجهزة السونار ومن مسافات بعيدة، وبعد دقائق كانت رسالة تيتو أمام عبدالناصر ونصت على: «من الرئيس تيتو إلى الرئيس عبدالناصر.. أناشدكم ألا تتقدموا فى البحر أكثر من الحد الذى وصلتم إليه الآن، الخطر شديد بعد التطورات الأخيرة، احتمالات مواصلة السفر بالبحر لم يعد يمكن تأمينها، أرجوكم العودة إلى أقرب ميناء يوغسلافى، قد يكون فى إمكاننا تدبير طائرة عظيمة السرعة تعود بكم إلى وطنكم، أرجو أن أتلقى ردا على الفور».
رد عبدالناصر: «فهمت وجهة نظركم، قررت أن أعود، أنتظر معلومات إضافية.. جمال»، وتوالت الأحداث فى اليوم التالى.