خرج الدكتور مصطفى الحفناوى من بيت الرئيس جمال عبدالناصر يوم 23 يوليو 1956، متوجهًا إلى مقابر الإمام الشافعى، وجلس لساعات أمام قبر ابنه، بعد أن أبلغه الرئيس أنه عقد العزم على تأميم قناة السويس، وناقشه فى هذا القرار، حسبما يؤكد «الحفناوى» فى الجزء الثالث من كتابه «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة».. «راجع: ذات يوم 23 يوليو 2018».
يروى «الحفناوى» أنه خرج من حى المقابر فى ساعة متأخرة من الليل، متجهًا إلى ضريح سيدنا أبى عبد الله بن الحسين، وبقى فيه حتى صلاة الفجر، وخرج من المسجد إلى داره، وحسب تأكيده: «لم يشعر أحد بأننى موجود فى القاهرة، ومكثت أعمل طوال اليوم إلى الليلة التالية».
كان عمل «الحفناوى» الذى مضى فيه طوال يوم 24 يوليو «مثل هذا اليوم 1956» هو تنفيذ الشق الخاص به فى إعداد مشروع قانون التأميم، ويشرح أحمد حمروش رحلة إعداد هذا القانون فى كتابه «ثورة 23 يوليو»، قائلًا: «كلف جمال عبدالناصر وزير الاقتصاد الدكتور عبدالمنعم القيسونى بإعداد مشروع قانون التأميم، واشترك فى وضع القانون محمد على الغتيت، عضو مكتب هيئة قناة السويس، حيث كان رئيسه الدكتور حلمى بهجت بدوى متغيبًا فى الخارج، والمستشار بدوى حمودة ممثلًا لمجلس الدولة، والمستشار حسن نور الدين مستشار وزير الداخلية، واقترح بعض المستشارين وضع الشركة تحت الحراسة، مستندين إلى مخالفات الشركة وتلاعبها، ولكن عبدالناصر أصر على التأميم».
يؤكد سامى شرف، مدير مكتب عبدالناصر فى الجزء الأول من مذكراته «سنوات وأيام مع عبدالناصر»، أن الرئيس وافق على ضم المستشار محمد فهمى السيد، مستشار الرئيس للشؤون القانونية، ومساعده المستشار عمر الشريف لفريق العمل، ويضيف أنه بعد الانتهاء من إسهامات الجميع ومناقشاتهم، وتوصلهم إلى صيغة محددة للقرار، قام هو بنفسه بكتابته على الآلة الكتابة، وطلب منه الرئيس أن يحتفظ به فى خزانته حتى يعطيه أوامر جديدة.
فى نفس اليوم «24 يوليو»، وطبقًا لعبدالحميد أبوبكر، القائد الثانى للفريق الذى نفذ عملية التأميم، فى مذكراته «قناة السويس والأيام التى هزت الدنيا»: «فى تمام الساعة التاسعة صباحًا وصل عبدالناصر إلى معمل تكرير البترول بمسطرد لافتتاح خط أنابيب البترول الجديد السويس/القاهرة ومعمل التكرير، وفقًا للموعد الذى حدده، وكان برفقته بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة والوزراء، وقبل أن يبدأ جولته لمشاهدة المعمل ونهاية الخط، التفت إلى محمود يونس، رئيس الهيئة العامة للبترول، قائلًا: اتكلم واشرح ولا تتوقف عن الشرح، سواء كنت أسمع لك أو لا».
ويعلق «أبوبكر»: «كان من الواضح أن ذهن الرئيس مشغول تمامًا، وأن آخر شىء يمكن أن يفكر فيه هو ما يشرحه يونس له»، ويضيف «أبوبكر»: «لعل محمود يونس قد أدرك شرود الرئيس وانصراف ذهنه عن كل ما يسمع، وحرصًا منه على سلامة الرئيس قال له: أرجو ألا تلمس أى ماسورة فى المعمل لأنها ساخنة جدًا لأن الوقت لم يسمح بتغليفها».
بعد افتتاح الخط، ارتجل «عبدالناصر» كلمة ليس لها علاقة بمناسبة الافتتاح، وفقًا لـ«أبوبكر» مؤكدًا: «انصبت على قرار أمريكا سحب تمويل السد العالى يوم 19 يوليو 1956، وحملة التشكيك فى سلامة اقتصادنا، وقال الرئيس: نؤمن بأنفسنا، ونؤمن بقوتنا، ونؤمن بعزتنا، ونؤمن بمصر وبأبناء مصر، ونؤمن بشعب مصر.. قامت فى واشنطن ضجة تعلن وقد تجردت من الحياء، بل تجردت من أى مبدأ من المبادئ التى يقوم عليها أساس علاقات الدول، تعلن كذبًا وخداعًا وتضليلًا أن الاقتصاد المصرى يدعو إلى الشك، إننى أنظر وأقول: موتوا بغيظكم، والرد الذى سأقوله لهم على هذا الكلام اليوم، هو غير الرد الذى سأقوله يوم الخميس القادم إن شاء الله».
يؤكد«أبوبكر»: «شعر الموجودن بأن افتتاح المشروع لم يكن إلا ذريعة اتخذها عبدالناصر لإلقاء خطاب للرد على قرار سحب تمويل السد، وباتت عواصم الشرق والغرب تتساءل عن الخطوة التالية، أو رد عبدالناصر على إهانات دالاس، وزير الخارجية الأمريكية، وراحت الصحف فى جميع أنحاء العالم تنشر التكهنات والتنبؤات، وأخذت الشائعات تروج وتنتشر، وقيل عن نوايا عبدالناصر الكثير.. قيل إنه سيرد بإعلان الاتفاق مع روسيا على بناء السد، وقيل إنه سيرفض اعتماد أوراق السفير الأمريكى الجديد، وسيقطع العلاقات مع أمريكا، لكن الحقيقة ظلت سرًا وبات العالم يترقب يوم الخميس 26 يوليو 1956 لكى يعرف رد جمال على إهانة الغرب».
وبعد انتهاء الافتتاح، طلب «عبدالناصر» من محمود يونس أن يقابله فى مجلس الوزراء الساعة الثانية عشرة ظهرًا.