كانت الساعة العاشرة مساء يوم 25 يوليو «مثل هذا اليوم» 1956، حين قابل الرئيس جمال عبد الناصر، الدكتور مصطفى الحفناوى فى مبنى مجلس قيادة الثورة «23 يوليو»، وكانت الساعة الثانية عشرة والنصف، حين قابل المهندس محمود يونس، رئيس الهيئة العامة للبترول.
كان اللقاء مع الحفناوى هو الثانى خلال يومين، وذلك لمناقشة موضوع تأميم قناة السويس «راجع - ذات يوم 23 و24 يوليو 2018»، ويذكر الحفناوى فى الجزء الثالث من كتابه «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة»، أن لقاءه الثانى بعبد الناصر مساء 25 يوليو «كان فى حجرته الخاصة بمجلس الثورة»، ويضيف: «كرمنى أيما تكريم بتناول طعام العشاء على مائدته وحديثه الذى مازال يتردد بين جوانب صدرى بردا وسلاما، وكم راعنى بدقته وحكمته وقد أعد العدة لكل احتمال، ووضع وحده بمفرده جميع الخطط، وكان حديثه يوحى بالثقة فى الله والثقة فى النصر».
يذكر أحمد حمروش فى كتابه «ثورة 23 يوليو»، أن عبد الناصر قال للحفناوى، إنه يتفاءل بالغرفة التى تم فيها اجتماعهما، لأنه اتخذ فيها قرار صفقة الأسلحة التشيكية «27 سبتمبر 1955»، التى ردت على رفض أمريكا لمطالب مصر باستيراد السلاح منها، ويؤكد «حمروش» أن عبد الناصر قام بمراجعة القانون الذى أعده الحفناوى للتأميم، وأجرى عليه تعديلات ثم تفرغ لكتابة خطبته التى سيلقيها يوم 26 يوليو فى الإسكندرية»، وخرج الحفناوى من اجتماعه مع عبد الناصر، متوجها إلى داره، ويقول: «مكثت وحدى فى تلك الدار لا يتصل بى أحد، حتى الخادم لم يكن عندى إلى أن صدرت إلى التوجيهات».
أما لقاء الرئيس مع يونس، فيكشف أسراره المهندس عبد الحميد أبوبكر فى مذكراته «قناة السويس والأيام التى هزت الدنيا»، مؤكدا أنه بعد افتتاح خط أنابيب البترول الجديد» السويس/القاهرة يوم 24 يوليو، دعا عبد الناصر، يونس إلى مكتبه بمجلس الوزراء الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرا، فاصطحب «أبوبكر»، وظنهما أن اللقاء متعلق بالبترول وقضاياه، وبمجرد أن جلس «يونس» أمام الرئيس بدأ فى عرض تقرير يحمله عن مشكلات البترول، واستمع الرئيس بلا تعليق، حتى سأله فجأة: «إيه معلوماتك عن قناة السويس؟»، فأجاب يونس بأنها قليلة، ثم قال له عبد الناصر: «قررنا تأميم القناة»، فقام يونس على الفور من مقعده معانقا عبد الناصر الذى أكمل: «أنا أكلفك بهذه المهمة يا محمود»، وللحظات لم ينطق محمود بكلمة واحدة.
كان أبوبكر ينتظر خارج الاجتماع، واستدعاه الرئيس وسأله عن معلوماته عن القناة، فأجاب مبتسما: «لا أعرف عنها سوى أنه يوجد فى بور توفيق ناد اسمه» النادى الفرنساوى، نتناول فيه الغذاء عندما يأتى ضيوف أجانب لزيارة معمل البترول الحكومى بالسويس، ونشاهد من شرفته السفن المارة، يؤكد أبوبكر: «بلهجة تنم عن الإصرار والحزم والإدراك العميق لصعوبة وخطورة القرار، أخبرنى الرئيس بأنه قرر تأميم القناة، وكلف محمود يونس بالتنفيذ».
أعطاهما الرئيس كتب وملف عن القناة، ووافق على اقتراح بضم عزت عادل سكرتير هيئة البترول، وودعهما كاشفا: «القرار سيكون فى خطابى بعد غد الخميس، والتنفيذ سيكون عندما أذكر كلمة «ديليسبس»، وانصرفا الاثنان للتجهيز طوال 55 ساعة، ويروى «أبو بكر» فى مذكراته، تفاصيل هذه الساعات حتى لحظة تنفيذ القرار يوم 26 يوليو 1956، مؤكدا أن عبد الناصر طلب من يونس وضع خطة التنفيذ، وترك له حرية اختيار المجموعة التى ستتولى المهمة، وطلب أن يكونوا من الموثوق فيهم، ومن ذوى الخبرة والكفاءة، وشدد على الاحتفاظ بسرية القرار، ويشير أبوبكر إلى أن يونس وهو كانا مشغولين ببرنامج عمل بعد لقاء الرئيس، كان آخره حفل عشاء فى فندق سميرا ميس حضره خبراء بترول ممن حضروا افتتاح خط أنابيب «السويس - القاهرة»،فى الصباح، ويؤكد: «أثناء العشاء كنا نحاول بصعوبة بالغة، السيطرة على أعصابنا، والتزمنا الصمت المطبق عندما سئلنا عن نتيجة الاجتماع مع الرئيس».
يذكر أبوبكر أنهم بدأوا فى تصفح الملف والكتب التى أعطاها لهم عبد الناصر، ومنها مذكرة 55 صفحة فولسكاب للعميد أركان حرب أمين أنور الشريف مدير إدارة التعبئة، وكتاب لمصطفى الحفناوى، ويؤكد: «طوال يوم 25 يوليو، كان يونس يتردد على مبنى قيادة الثورة، ثم يعود إلى مكتبه بهيئة البترول لينجز أعماله ومقابلاته المتعلقة بالبترول، ثم يجتمع معى ومع عزت عادل، لمناقشة خطة تنفيذ التأميم، وطلب بدء اختيار الأشخاص الذين سيشتركون، وحدد وجوب الموافقة الاجماعية لثلاثتنا عن كل مرشح، أى محمود يونس وعادل عزت وأنا، وكانت نصيحة الرئيس لنا أن نختار أشخاصا نثق فى وطنيتهم وكفاءتهم، وممن نستطيع أن نعمل معهم كعائلة واحدة، وطلب الاستعانة بأصحاب الخبرات من بين المدنيين لإعطاء التأميم أمام الرأى العام العالمى صورة العملية القومية، بدلا من صبغتها العسكرية فقط».