كانت الساعة الثامنة مساء، حين أعلنت الإذاعة المصرية فى نشرتها عن إتمام التفاهم على جلاء الجيش البريطانى عن مصر نهائيًا نتيجة المفاوضات، وأن التوقيع بالأحرف الأولى على الاتفاقية تم فى ذلك اليوم، 27 يوليو «مثل هذا اليوم 1954»، حسبما يذكر عبدالفتاح أبوالفضل فى مذكراته «كنت نائبًا لرئيس المخابرات» عن «دار الشروق - القاهرة».
فى اليوم نفسه، ووفقًا للدكتورة هدى عبدالناصر فى الجزء الثانى من كتاب «جمال عبدالناصر.. الأوراق الخاصة»، وجه عبدالناصر كلمة إلى الشعب المصرى من الإذاعة، قال فيها: «إننا نعيش الآن لحظة مجيدة فى تاريخ وطننا، إننا نقف الآن على عتبة مرحلة حاسمة من مراحل كفاح شعبنا، لقد وضع الهدف الأكبر من أهداف الثورة منذ هذه اللحظة موضع التنفيذ الفعلى، فلقد وقعنا بالأحرف الأولى اتفاقًا ينهى الاحتلال، وينظم عملية جلاء القوات البريطانية عن أرض مصر الخالدة، وبذلك تخلص أرض الوطن لأبنائه شريفة عزيزة منيعة بعد أن قاست 72 عامًا مريرة حزينة».
جاء هذا التوقيع بعد مفاوضات بدأت بين قيادة ثورة 23 يوليو 1952 والجانب البريطانى منذ 27 إبريل 1953، ووفقًا للدكتور عاصم الدسوقى فى مقاله «يوم انتظره المصريون 74 عامًا»، «الأهرام 18 يونيو 2014»: «دخل عبدالناصر هذه المفاوضات مستندًا إلى قوة العمل الفدائى الذى استمر ضد معسكرات الإنجليز فى منطقة قناة السويس»، ويكشف عبدالفتاح أبوالفضل أنه فى سبتمبر سنة 1952 بدأت مصر الترتيب للتمهيد لمطالبة البريطانيين بجلاء قواتهم كلية من الأراضى المصرية، وذلك بتنظيم مقاومة فى قاعدة القنال للضغط على بريطانيا لإرغامها على البدء فى مفاوضات جادة من أجل تحقيق الجلاء الشامل.. بدأت السلطات المصرية بإصدار قرار بتكوين حرس وطنى لأجل تحقيق أمانى الوطن مع احتمال استخدامه فى المقاومة الشعبية ضد قاعدة القنال، كما تكون مكتب خاص للمقاومة فى إدارة المخابرات بالقاهرة، ضم كلًا من سعد عفرة، وكمال رفعت، وعبدالمجيد فريد، وكان فى هذا المكتب قسم للمعلومات وقسم للعمليات، أما أنا فقد تم نقلى فى مكتب مخابرات القنال فى مدينة الإسماعيلية مع الزميل عمر لطفى، الذى كان قائمًا بالعمل بهذا المكتب قبل الثورة»، ويقدم أبوالفضل فى مذكراته العديد من العمليات الفدائية التى تم تنفيذها.
يؤكد كمال الدين رفعت فى مذكراته «حرب التحرير الوطنية»: «لم تكن الأشهر الثمانية بين قيام الثورة فى 23 يوليو 1952 وبدء محادثات الجلاء فى 27 من إبريل سنة 1953 وقتًا مبددًا، بل كانت تلك الأشهر أيامًا من العمل ليل نهار من أجل الحصول على أكبر معلومات ممكنة عن المخابرات الإنجليزية، وعلى أكبر معلومات ممكنة عن وضع قوات الاحتلال، وفى نفس الوقت كان إعداد الفدائيين للمعركة، تدريبًا وسلاحًا، مستمرًا»، يكشف رفعت: «أذكر أن مهمة جمع سلاح الفدائيين فى القنال كانت إحدى المهام التى أوكلتها إلى قيادة الثورة، واستطعت بحكم صلتى ببعضهم خلال معركة القنال أن أحصل على السلاح الذى كان لديهم، أما البعض الآخر الذى لم أكن أعرفه فقد تقدم وحده ليسلم السلاح المخزون عنده، من بين هؤلاء كان مدحت عاصم، الموسيقار، الذى اتصل بى ليسلم لى السلاح الذى كان يشونه فى مخبأ تحت الأرض فى منزله بالعباسية، ويذكر مدحت عاصم أن كمية السلاح الهائلة التى سلمها للثورة كان محتفظًا بها بعد حريق القاهرة فى انتظار المعركة التى ستقوم لا محالة، أما وقد قامت الثورة فإنه يتطوع بنفسه لتسليم السلاح».
يؤكد محمد حسنين هيكل فى كتابه «ملفات السويس»: «عبدالناصر وضع خطة للمقاومة المحسوبة، كما كان يسميها، واختار مجموعات العمل الفدائى التى تتولى إزعاج الإنجليز، وإرباك قاعدتهم فى القناة تحت قيادة ضباط قريبين منه وإشرافه المباشر.. كانت خطته هى القيام بعمليات محدودة ضد قوات الاحتلال وضد القاعدة، بحيث تؤدى إلى اختلال توازن قوات الاحتلال، وكان يرى بتجنب قتل الأفراد كلما أمكن، ومن هنا تركزت هجمات الفدائيين المصريين على خطوط المواصلات وشبكة الاتصالات، وأما فيما يتعلق بالأفراد فقد كانت السياسة المتبعة هى تخويفهم وليس إزهاق أرواحهم، وجر التركيز على «الملونين» ضمن قوات الاحتلال، ومعظمهم من جنود «الموارشيوس» و«الجوركا»، وكانت هناك جهود مكثفة للاتصال بهم وإقناعهم بالابتعاد عن الخطر، وبالفعل فإن أعدادًا منهم تركوا الخدمة فى قاعدة قناة السويس، وسهلت السلطات المصرية فرصًا للعودة إلى بلادهم، كما أن بعضهم فرّ من الخدمة بمعدات كانت معه أو بأوراق كانت فى متناول يده».