أثار فيديو الأطفال المقبوض عليهم فى بورسعيد بتهمة التهريب، ردود أفعال واسعة فى مصر باكملها، وأصبحت حديث الإعلام والسوشيال ميديا على حد سواء، البعض يتهم المذيعة التى حاورت الأطفال بالجهل، والبعض يلقى باللوم على المحافظة لتصوير هذا الفيديو ونشره على الموقع الإليكترونى، والبعض يطالب وزارة التضامن الاجتماعى بالتدخل لحماية الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 عاما من الاستغلال فى أعمال التهريب، ولكن الحقيقة أن ما حديث ومازال يحدث فى بورسعيد أكبر بكثير من كل هذا.
الشهر الماضى نشرت "انفراد" تحقيقا استقصائيا عن رجال أعمال ومستخلصون فى بورسعيد يستغلون سيدات فقيرات فى تأسيس شركات استيراد وهمية بأسمائهن لاستيراد بضائع غير مطابقة للمواصفات دون سداد الرسوم الجمركية وتسريبها للسوق المصرى، وأصبحت مئات السيدات مطلوب القبض عليهن فى قضايا تهريب ومطاردات من الشرطة، فى حين ينعم المهربون الحقيقيون بالثروات التى حققوها على مدار سنوات طويلة من استغلال الفقراء ونهب الدولة.
الحقائق العديدة التى كشفها هذا التحقيق لم تكن فقط هى ما عثرنا عليه أو عرفناه، ففى المدينة الباسلة وقع أمامنا الكثير مما يكشف بحر الفساد الذى تغرق فيه المدينة الباسلة، تورط أطفال تقل أعمارهم عن 18 عاما فى تهريب ملابس ليس بالأمر الجديد أو حتى الغريب فى بورسعيد، فالعمل بالتهريب "الصغير" هو أمر شائع جدا فى المدينة، ولكن ما يجب الانتباه إليه هو التهريب الكبير الذى لا ينقطع منذ عقود برعاية رجال أعمال "كبار" بداخل بورسعيد وخارجها.
جولات عديدة قمنا بها أثناء إعداد التحقيق بالمدينة الحرة، بكثير من الشوارع والمناطق الشعبية التى يغلب عليها طابع الفقر مثل أحياء المناخ والزهور والضواحى، تكشف مدى صعوبة الحياة التى يعيشها أبناء المحافظة وحجم الفقر والمعاناة التى قد تدفع أى شخص للعمل بالتهريب باعتباره وظيفة تجلب مالا قد يسد رمق الأسرة، ولكن هذا لا يمنع ابتعاد الكثيرين من أهل المدينة عن هذه الأعمال، ولكنه ليس بالأمر السهل لأن غيره من الأعمال لن تكون مجدية ماديا.
وفى الفيديو الذى نشرته محافظة بورسعيد على موقعها وجهت المذيعة سؤالا للأطفال المقبوض عليهم، "ما اشتغلتش ليه فى الاستثمار؟"، وقد أثار حفيظة الآلاف على وسائل التواصل الاجتماعى فكيف لطفل فى عمر 17 عاما لا يجد قوت يومه أن يعمل مستمثرا أو رجل أعمال؟ ولكن الحقيقة التى يعلمها سكان بورسعيد جيدا أن "الاستثمار" هى عبارة عن منطقة المصانع التى تضمنها المنطقة الحرة بالمدينة، لكن يطلق عليها أهل بورسعيد هذا الاسم مجازا، ولكن فى حقيقة الأمر العمل فى هذا "الاستثمار" لورديتين لمدة تمتد أكثر من 14 ساعة يوميا دون راحة يحصل الشاب أو الشابة فى مقابله على 1200 جنيها فقط، وهو سبب رئيسى لإحجام الكثيرين عن العمل فى "الاستثمار".
وبورسعيد هى المنطقة الحرة الأقدم فى مصر والتى تأسست عام 1971 فى عصر الانفتاح الاقتصادى وقتها، وكانت هى باب الاستيراد الأول لمصر، ولكن مع الوقت تحول هذا الباب إلى أكبر منفذ لتهريب البضائع فى مصر، عبر مجموعة من المنتفعين الذين كونوا ثروات هائلة، وهو معروفون بالاسم بين سكان المدينة الحرة، ولجهات الدولة المختلفة أيضا.
وعندما تأسست المنطقة الحرة، نص القانون على ما يسمى بالحصة الاستيرادية لسكان بورسعيد الأصليين أى مواليد المحافظة أو المقيمين بها منذ أكثر من 15 عاما، وبموجب قانون المنطقة الحرة، يمكن لأى بورسعيدى يعمل بالتجارة ولديه محل أو شركة أو "مكان" مملوك له أن يتقدم إلى المحافظة بطلب للحصول على حقه فى حصة الاستيراد بقيمة معينة يستورد من خلالها بضائع بغرض التجارة بداخل المنطقة الحرة، ولكن الواقع أكبر من ذلك بكثير.
ولا تخلو بيوت أغلب الأسر فى بورسعيد من شخص لديه بطاقة استيرادية بموجب هذه الحصة حتى وإن لم يكن له أى علاقة بالتجارة أو الاستيراد، خاصة وأن هذا الأمر لا يخضع للوائح وقوانين الاستيراد فى مصر، وإنما يخضع فقط لقانون المنطقة الحرة، بل والأكثر من ذلك أننا اكتشفنا حصول الكثيرين من سكان بورسعيد على بطاقة استيرادية على عنوان "حجرة" بداخل شقة أو كشك فى الشارع، يستورد من خلاله بضائع معفاة تماما من الرسوم الجمركية، وليس بالغريب أن تجد بواب عمارة أو بائع فى محل لدية بطاقة استيرادية فى بورسعيد حصل عليها بسهولة تامة من المحافظة.
الأكثر من ذلك أن تأجير البطاقات الاستيرادية فى بورسعيد أمر شائع جدا، وتعج المواقع والصفحات الإليكترونية بالمئات الذين يعرضون تأجير بطاقاتهم لمستوردين، أو مستوردون يطلبون تأجير البطاقات، أو سماسرة جمع البطاقات وتأجيرها، ووضع تسعيرة للتأجير، وكل هذا لا يخالف القانون على الإطلاق الذى لا يمنع من تأجير البطاقة كل عام بمقابل مادى لشخص آخر يمكنه استيراد أى شيء بموجبها دون رقابة.
ومن الخطير هنا أن هناك قرار صدر من وزارة التجارة والصناعة قبل سنوات بعدم خضوع واردات المنطقة الحرة فى بورسعيد للعرض على الجهات المختلفة، بمعنى أكثر بساطة أن أى بضاعة يتم استيرادها بنظام المنطقة الحرة فى بورسعيد لا يحق لأى جهة فنية فحصها والتأكد من صلاحيتها أو مطابقتها للمواصفات، وحتى إن كانت البضائع المستوردة بالمنطقة الحرة من المفترض أن يتم تداولها وبيعها فقط داخل المحافظة فليس هناك ما يبرر على الإطلاق التهاون فى صحة المواطنين أو سلامتهم، فالأمر لا يقتصر على ملابس او أحذية غير مطابقة للمواصفات وإنما يطالب الصحة والسلامة عبر أدوية مغشوشة أو أغذية فاسدة أو حتى قطع غيار سيارات مضروبة تودى بمستهلكها للهلاك.
والتهريب فى بورسعيد لا يقتصر أو يتوقف عند حدود المنافذ الجمركية، فهناك مناطق بعينها تشتهر بالتهريب فى "عز الضهر" بداخل المدينة يسيطر عليها أباطرة التهريب هناك، نذكرها بالتفصيل من واقع بيانات مصلحة الجمارك التى حصلت عليها "انفراد" وقت إعداد التحقيق الصحفى عن شركات الاستيراد الوهمية هناك، وهى كالآتى:
منطقة الرسوة جنوب بورسعيد: وهى عبارة عن منطقة أسفل الكوبرى العلوى لمنفذ الرسوة ومنطقة المشتل الزراعى ومنطقة شريط القطار وسور بابور المياه الموازى لمنفذ الرسوة المركى ومنفذ النصر الجمركى، حيث يقوم المهربون باقتحام هذه المناطق يوميا عن طريق حمل بعض الكراتين واللفافات الكبيرة وبداخلها البضائع الأجنبية غير الخالصة الرسوم الجمركية والخروج بها.
ومنطقة عزبة أبو عوف: وهى منطقة سكنية تقع بجوار منطقة الجبانات الجديدة وخلفها مدق ترابى، حيث يقومون بالتهريب باقتحام هذه المنطقة بسياراتهم المحملة بالبضائع الأجنبية والخروج بها.
منطقة القابوطى: وهى ممر مائى وهى المنطقة الواقعة بين منطقة خلف مصنع تراست للكيماويات ومنفذ المنزلة الجمركى وخلف مستشفى الأمراض النفسية، وهذه المناطق يتم فيها التهريب عن طريق لنشات بحرية ذات سرعات عالية.
منطقة منفذ الجميل الجمركى غرب بورسعيد: وهو مدق ترابى يقع بين خلف منفذ الجميل ومنفذ الأتوبيس ومنطقة الجبانة الجديدة (بوابة رقم 4) ويتم الهريب فيها يوميا.
هذه المناطق الأربعة لا تخضع للرقابة الجمركية، وقامت مصلحة الجمارك من قبل بعرض هذه الوقائع على الجهات المعنية، ولكن لم يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة لردع ووقف نزيف المال العام من أنشطة التهريب فى بورسعيد، فلمصلحة من يتم ذلك؟
الكثير من الحقائق ظهرت جليا أثناء إجرائنا التحقيق، كان منها وجود 14 مستخلص جمركى فى المدينة الباسلة هم الأكثر ثراء والأوسع نشاطا فى عمليات التهريب وضعتهم مصلحة الجمارك قبل عامين فى قائمة سوداء للمتعاملين "الأكثر خطورة" مع الجمرك وطالبت الجهات المعنية وقتها بفحص ثرواتهم التى تضخمت بفعل التهريب، ولكن لا أحد يعرف حتى الآن نتيجة هذه التحقيقات.
تحقيق "انفراد" وضع يد الجميع على جرح غائر نعرفه جميعا، لكن ربما نجهل الكثير من تفاصيله، هناك مافيا كبيرة لها علاقات متشعبة تمكنها من نهش اقتصاد الدولة بطرق جهنمية دون محاسبة، ولكن النشاط الذى تقوم به الجهات الرقابية فى الآونة الأخيرة ربما يضع مسمارا كبيرا فى نعش هؤلاء المهربين، وهنا يجب طرح السؤال الأهم من جديد: إذا كان التهريب وضياع أموال الدولة هو السمة الرئيسية عبر تاريخ المنطقة الحرة فهل آن الأوان للوقوف بجدية أمام المشكلة وإنهائها تماما؟