ننشر حوارا تاريخيا عمره 27 عاما.. متى المسكين يجيب عن أسئلة كبار النقاد.. جابر عصفور: ما الرموز؟.. ونصر حامد أبو زيد: كيف تقرأ الأناجيل؟ وهدى وصفى: ما الفارق بين الشرح والتفسير.. الأب: الله فتح علىّ

نعيد نشر حوار، أصفه بالتاريخى، ليس لأن عمره 27 عاما، لكن لجمعه 4 من المفكرين وأصحاب الرؤية التنويرية، هما متى المسكين والدكتور جابر عصفور والدكتور نصر حامد أبو زيد والدكتورة هدى وصفى، وذلك فى عام 1991، وقد نشر فى مجلة ألف فى العدد الثانى عشر، وهو العدد الذى خصصته اﻟﻤﺠلة عن المجاز فى العصور الوسطى. والحوار حافل بالكثير من الأفكار والقضايا الكبرى التى تتعلق بالفكر العربى الدينى والفلسفى والمذهبى والرؤية العامة فى التفكير، حيق فتح الأب متى المسكين (1919 – 2006) قلبه وعقله لضيوفه وطافوا جميعا فى جنبات الفكر المختلفة المتعلق بالإسلام والمسيحية. وإلى نص الحوار: هدى وصفى: نريد أن تحدثنا عما قمت به من شرح إنجيل يوحنا، ويدفعنا إلى هذا السؤال منهجك فى الشرح من ناحية، والتمهيد المستقل الذى قدمت له للشرح فى أكثر من أربعمائة صفحة بعنوان المدخل لشرح إنجيل يوحنا. وواضح أنك كنت تقدم - فى هذا الشرح - ترجمة تفسيرية جديدة للنصوص الأصلية؟ متى المسكين: فى الحقيقة، أنا حين ابتدأت الترجمة واجهت معضلتين : الشرح والتفسير، فالكلام بحاجة إلى تفسير، وبعد التفسير بحاجة إلى شرح، لأننى أوضح معنى النص، وأرتبط بالنص ارتباط أمانة، ونقطة البداية هى ترجمة النص لأنه يونانى ذو ترجمة سقيمة، ولذلك أبدأ بإعادة ترجمته. بعد ذلك أبدأ التفسير على ألا أخرج خارج النص إطلاقا، وإلا فإن ذلك لا يعتبر تفسيرا، فأى خروج نسميه عدم أمانة، وهذا لا ينطبق على القرآن، ففى القرآن ليس بعد النص شيء، ولكن فى الإنجيل، لدينا ما يجعل الكاتب يكتب مثل إنجيل يوحنا، فهو يوضح كلام المسيح ويشرحه فقبل النص هناك صاحب النص ولذلك لابد أن أتعرف على النص كى أقول الشرح، وتلك مرحلة ما قبل التفسير، وفيها خروج عن النص ولكن فى حدود صاحب النص، إذ لابد لى أن أعرف صاحب النص سواء كان المسيح أو يوحنا، وأن أتربى بالمعنى الصحيح تحت رجليه وأن أعرف خلجات قلبه وفكره، وبالتالى أستطيع أن أكتب أكثر من النص مرات كثيرة، وأشرح النص دون أن أخرج عنه قيد شعرة. جابر عصفور: أنت – إذاَ - شارح بالمعنى التأويلي، على أساس أن التأويل عود على البدء، ومن ثم فشرحك إدراك لغاية صاحب النص. متى المسكين: أنا لا أؤول، أنا آخذ التأويل من صاحب النص. جابر عصفور: بمعنى أنك ترجع إلى الأصل. متى المسكين: أرجع إلى النص فقط، وليس إلى ما قبل النص. نصر أبو زيد: فى القرآن ليس عندى ما قبل النص. جابر عصفور: فى الإسلام ليس هناك ثنائية. متى المسكين: لا، ليس ثنائية، ولكن أستطيع أن أسميه الفكر الكلى المطلق أو الوعى الكامل، يتدرج إلى الوعى غير المطلق المرتبط بالعقل فيتترل كلامًا، ولكن قبل الكلام وعى خارج عن الكلام، أقوى منه وأكبر منه ولكن لا يخرج عنه. نصر أبو زيد: فى القرآن، نربط بين التفسير والعلوم اللازمة للاقتراب من النص، بمعنى أننى لا أستطيع تفسير آية دون أن أعرف أسباب الترول. متى المسكين: هنا أستطيع القول، ولك أن تردني، إن وراء النص القرآنى هناك الروح القرآنية التى كتبت القرآن، كيف أتبين هذا؟ محمد عبده والأفغانى خرجا عن النص وشرحا، وكان شرحهما مقبولا وتأثيرهما قويًا على المسلمين، ولكن هذا انتهى يوم قفل باب الاجتهاد، وهذه مأخوذة على المسلمين، إذ كيف يقفل باب الاجتهاد والاجتهاد مرتبط بالله وليس بالقرآن فقط، الاجتهاد هبة، رجل موهوب فكيف أقول له لا تجتهد، وهو أخذ من الله 'فرمان' أن يجتهد ويشرح، إن غلق باب الاجتهاد يكون حين يغلق الله باب الإلهام. نصر أبو زيد: بالنسبة لمسألة الإلهام، هل أنت من المتصوفة؟ متى المسكين: لا، لست صوفيًا. نصر أبو زيد: هناك قول شائع ومستقر مؤداه أن كل كلمة وكل حرف فى القرآن له ظاهر وباطن، وله حد وله مطلع، أربعة مستويات فى التفسير، هل توجد هذه المستويات الأربعة فى تفسيرك؟ متى المسكين: أنا أتكلم عن الباطن، فأنا أرى المسلم المتمكن من الروح الإسلامية الذى يتقن العبادة والتقوى عنده قدرة على دخول باب الاجتهاد، وهذا مُنع، وأنا فى الحقيقة آخذ ذلك على المسلمين، فكيف يغلق باب الاجتهاد بعد محمد عبده والأفغاني. لماذا؟ جابر عصفور: لأسباب سياسية معروفة، وعند بعض اﻟﻤﺠموعات فحسب. نصر أبو زيد: فى الحقيقة، إن باب الاجتهاد مغلق منذ زمن طويل، والذى حاوله محمد عبده أنه وارب الباب قليلا، ثم أغلق مرة ثانية. متى المسكين: لماذا؟ نصر أبو زيد: كما يقول الدكتور جابر، لأسباب سياسية. متى المسكين: أتعرف أن ذلك هو الذى فرقنا، هو الذى فرق الإسلام عن المسيحية. نصر أبو زيد: هذا أكيد. متى المسكين: حتى المسيحية حين انقسمت إلى كاثوليكية وبروتستانتية وأرثوذكسية، تركت الوعى العالى ونزلت إلى الوعى العقلي، فحين يرتفع المسلم فى باب الاجتهاد ويتلامس مع الروح، سوف يتلامس معى بلا شك، ولكن حين نترل على الأصول فقط، سيكون لك بيت ولى بيت، لا تزورنى ولا أزورك. جابر عصفور: هذه النقطة، لو أذنت لي، نريد أن نتوقف عندها قليلا، الذى فهمته الآن أن هناك ما يسمى بالروح الكلى وهذا هو المستوى الأعلى، وهناك ما يسمى بالوعى الجزئي، أى الوعى المتصل بالعالم، وهناك النص، ثم هناك أنت كقارئ، وسؤالى هو: هل يستلزم فهم النص نوعا من الاتحاد الوجدانى بينك وبين الروح الجزئى الذى يجعلك تتصل مباشرة بالروح الكلي؟ متى المسكين: طبعا، وأنت قد شرحت. جابر عصفور: أريد أن أسمع منك. متى المسكين: أنت أوضحت بما يكفي، أنا أعطى لأناس معرفتهم قليلة بالوعى الروحى العالي، ولكن لديهم التراث الإنساني، الإسلامى أو المسيحي، لديهم النفحة التى أعطاها لنا الله، أعطاها لآدم ولى ولك، أخذنا الوعى الكلى بالله كهبة، ولكن ﺗﻬنا بسبب خروج آدم من وجه الله وتعسفه وتعرجه فى العالم، فضاع منه الوعى الكلى وعاش بالوعى الجزئي، ومن حين لآخر على يد هذا النبى أو ذاك فى العهد القديم، إلى أن جاء داود وسليمان الحكيم اللذان انطلقا من الوعى الروحى المحدود فى العقل إلى الوعى الكلي، وأعطانا لمحة، هذا هو ميراث البشرية. مباركٌ هو الإنسان الذى يستطيع أن ينفذ من الوعى المحدود المرتبط بالعقل الذى يتربع على التاريخ والزمن والقياس، ينفذ من الباب الموارب إلى الوعى الإلهي، هذا يكون الإنسان الإلهى الذى يتقرب إلى الله، ويعبده ويعرفه بشكل صحيح. جابر عصفور: فى هذه الحالة، حين يكون هناك نوع من الاتحاد الوجداني، هل نستطيع القول إن شرح الإنجيل الذى كتبه الأب متى كان مرآة الأب متى التى انعكس عليها الوعى الكلى بطريقة تتناسب مع درجة الاتحاد الذى تم بين الأب متى الشارح والنص المشروح. متى المسكين: فى الحقيقة، لا أخفى عليك، أنا لم أتجرأ طيلة عشرين عاما أن أقترب من إنجيل يوحنا، لشموخه ولشعورى بالعجز والقصور، ماذا حدث؟ إن هذه السنين جعلت الوعى يرتفع ويتذوق، إلى أن بدأت أقرأ إنجيل يوحنا واكتشف أن هناك معانى مختلفة وجديدة، وقلت لرهبان كثيرين، كم أتمنى شرح إنجيل يوحنا ولكنى لا أقدر، إلى أن جاء اليوم، وأحسست أن الوعى الذى أشعر به قريب من الوعى الذى كتب به يوحنا، لدرجة أننى حين كان يستعصى على مفهوم، كنت أتوقف، وأجلس صامتا وأصلي، أريد أن أشعر به وتقريبا أخاطبه، وأقول له: ماذا تريد أن تقول؟ إن الكلام واضح ومفهوم ولكنى لا أستطيع أن أعيه كى أكتبه: لحظتها، يأتى الحدس فأكتب، وهذا هو خلاصة قولي، حين تقترب من صاحب النص تحصل على الشرح، أنت تقول إننى مرآة، فى الحقيقة لست مرآة، أنا موصل صديق لصاحب النص، قريب منه وأحبه. هدى وصفي: كونك تعيش مع المؤلف، أو صاحب النص كى تشرحه، هل هذا ينطبق على النصوص الإلهية فقط، أم على جميع الإبداعات؟ متى المسكين: إذا جعلتنى أدرس أى شاعر أو أديب ممن يملكون الوعى العالي، فأنا أستطيع أن أشرح لك ما قاله مثلما شرحت يوحنا. هذا ميراث بشرى مشترك، وأنا عثرت عليه، وعنده مثلما عندى وربما أكثر، ولكن ليست هناك محاولة، وأنا واثق مما أقول، وتستطيع ﺑﻬذا المفهوم أن تعود إلى القرآن وتشرح، فالشرح يتعلق بصاحب النص، وهذا هو ما اكتشفته بالنسبة للدكتور نصر أبو زيد، فهناك النص والتفسير والتأويل، ولكن أين الشرح؟ نصر أبو زيد: فى الانتقال من الظاهر إلى الباطن إلى الحد إلى المطلع، الذى هو الروح الكلي. متى المسكين: أنا أقف عند الباطن، لأن الخروج عنه درجة غير بشرية. نصر أبو زيد: المتصوفة المسلمون تحدثوا عن أربع درجات، وطلعوا إلى الرابعة. متى المسكين: لا تصدقهم كثيرا، وفى المبدأ السني، لا يؤخذ برأى المتصوفة لأﻧﻬم تجاوزوا النص. جابر عصفور: أتصور أنك تمثل منطقة وسطى بين التصوف والعقلانية. متى المسكين: أنا معك، فعقلى الباطن صديق، وهو ما يسمونه بالجوانية، فإذا تكلمت فى العلم آتى لك بجديد بسبب أننى أنتقل بسهولة من العقل المحدود إلى ما فوق. نصر أبو زيد: أريد أن تشرح لنا دورك كشارح للنص، كيف تكتب للقارئ الذى لم يخض التجربة من حيث التقوى والصلاة وغير ذلك، كيف تحيل الفهم إلى خطوات لغوية وتفسيرية؟ متى المسكين: هذه هى الأدوات. نصر أبو زيد: نعم، ونريد أن تحدثنا عنها. متى المسكين: البركة فيمن علمونا من الأساتذة، طه حسين والعقاد، كيف كانوا يوضحون ويقسمون المعني، وكنت أتساءل وأنا أقرأ كيف قسم هذا المعنى أو ذاك؟ فلا يمكن أن تتعلم شيئا دون أن تعرف من أين جاء. فالأدوات ليست محتاجة إلى دراسة، الأدوات تلقين، والتلقين إذا ما تقابل مع الآلة المستعدة، ساعتها أجد الكلمة تأتى بشكل عفوى ومباشر إلى درجة أننى إذا ما أتتنى علاقة لغوية مسجوعة، أخاف من السجع لكيلا يقول أحد أننى أسجع، فأحذف السجع، فأنا لا أقدم سجعا ولا جمال لغة، أنا روح فى لغة، لغتى ليس لها قيمة، لغة محدودة، ولكن الروح هو الذى يجعلها لغة براقة. جابر عصفور: ألم يحدث مرة أن الروح لم يتجسد فى اللغة بسهولة، أو أن اللغة تأبّت على الروح فى التعبير؟ متى المسكين: أنت تضغط على مواجعي، فما كتبته هو ربع ما أريد، وما جعلنى محددا شيئان: القارئ واللغة، القارئ لا يستطيع الاستيعاب واللغة قاصرة، وحين يكون المعنى قويا تجدنى اختزلت فى الكلام. جابر عصفور: هناك صوفى من متصوفة القرن الرابع هو النفري، له عبارة جميلة وموحية تقول: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، وأنت تتحدث عن كيفية تجسد الروح فى لغة، واللغة بطبيعتها المحدودة لا تستطيع استيعاب كل شيء، لا تستطيع أن تجسد إطلاقية الروح. متى المسكين: الله مدرّك كامل، يدْرّك ولكن ليس كما ينبغي. جابر عصفور: معنى ذلك أنك فيما يتصل بمسائل الشرح، مؤمن بالعلم المضنون به على غير أهله، وأن هناك مستويات للعلم ومستويات للعقول البشرية! متى المسكين: لا، كل عالم وكل مشتغل بالعلم يصل إلى العلم لو مرَّ ن حواسه الروحية، وكل إنسان فيه روح ووعى مطلق ولكنه مرتبط بالعقل، فلو م رَّن العالم حواسه لابد أن ينطلق، أنا أقول ذلك وأنا حزين، أنا كنت إنسانًا ضعيفا ولم يكن لدى وعي، أنا رجل عملي، صيدلي، أدواتى هى الموازين وأنابيب الاختبار ومراقبة الألوان، ولكنى حين تقربت إلى الله كراهب، وأخلصت، انفتح لى العلم شيئا فشيئا، هل هذا حذق مني؟ أبدًا، هل هذه إيديولوجية؟ لا. جابر عصفور: ولكن هذا يجعلنى أسألك مرة ثانية، لماذا شرح إنجيل يوحنا بالذات؟ متى المسكين: اقرأ الأناجيل وأنت تعرف. جابر عصفور: ولكنى أريد أن أسمعها منك. متى المسكين: فى الحقيقة، الأناجيل الثلاثة الأخرى تقدم التاريخ، مسيح التاريخ، الولادة والصبا والتعميد والتعليم، ولكن يوحنا لم يقدم هذا التاريخ، لم يذكر بيت لحم ولا مريم العذراء إلاَّ فى مرات قليلة، ثم إن يوحنا بالذات تعرَّف على المسيح وعاش معه قبل التلاميذ بمدة، وعاش معه فى اليهودية، فإسرائيل مملكتان. فوق إسرائيل وتحت اليهودية. وأول ما بدأ المسيح بدأ فى اليهودية فترة ربما سنة، وكان معه يوحنا، وهذه السنة قالها يوحنا. فوق هذا، فإن الأناجيل الثلاثة لم تذكر أورشليم إلا مرة واحدة، أى سنة واحدة ذهب فيها المسيح إلى أورشليم وعلم هناك وصلب، ولكن يوحنا ذكرها ثلاث مرات أى ثلاث سنين، إذن إنجيل يوحنا هو الذى يقول لك إن المسيح عاش فى اليهودية تقريبا ثلاث سنين ونصف، فيوحنا يعطى فرصة أوسع للتعرف على المسيح. بالإضافة إلى ذلك، تتحدث الأناجيل الثلاثة على المستوى العقلانى التاريخي، ولكن يوحنا وجدانى وروحاني، وأعتقد أنه كان يسجل الكلمات ولا ينقلها من الذاكرة، وأهم ما فى إنجيل يوحنا هو حواره مع الفريسيين الذين كانوا تماما على مستوى الدكتوراه فى اللاهوت، فتصور حوارا بين المسيح وبينهم، يوحنا يسجل الحوار بعمق، ومع كل هجوم منهم يأتى المسيح بتعاليم جديدة، فهجوم الفريسيين هو الذى كوَّن إنجيل يوحنا، كذلك فإن المسيح كان يذهب إلى أورشليم، ويذهب إلى هيكل سليمان ويعظ، وكان الكهنة يحضرون فيحدث نقاش معهم حول طقوسهم وأعيادهم: وفى كل عيد يشرح لهم طقس العيد على مستواه الجديد، فمنهج العهد الجديد – إذن - كله فى إنجيل يوحنا، وأيضا يوحنا لم يقحم نفسه، أنت لا تجده فى مرة يعلق، بل تجد حوارا حرا ليس فيه الإيديولوجية الثقيلة. نصر أبو زيد: ولكنه اختار ما يحكيه. متى المسكين: قام بتنقيته، قال: أمور كثيرة قالها المسيح ولكن هذه اخترﺗﻬا لكم كى تؤمنوا. هدى وصفي: هذه هى الإيديولوجية. متى المسكين :إيديولوجية اختصار وتركيز فيما ينفعهم. نصر أبو زيد: ما يتصور هو أﻧﻬا تنفعهم. جابر عصفور: ولكن هناك سؤالا فى الجوانب البلاغية لو أذنت لي، أنا ألاحظ فى المدخل والجزءين الآخرين أنك لا تستخدم إلا رموزا، وفى الشروح الدينية دائما ما يقرأ الإنسان الاستعارة واﻟﻤﺠاز، ولكنك ملتزم دائما بالرموز، لماذا؟ لماذا لا توجد إشارة إلى الاستعارات؟ لماذا الكلام عن الرموز فقط؟ متى المسكين: هذا سؤال مبدع، معك حق، وفى الحقيقة كل ما عرف عن المسيح فى العهد القديم رموز، يقال مثلا: رفع موسى الحية على عصاه فى البرية كى يراها كل إنسان، فقد كانوا يعصون الله فجاءت الحيات وعضتهم، فموسى هنا فعل شيئا لا يعرفه، واليهود طوال العهد القديم لم يعرفوا هذا السر، فقالوا هات عصا وأصنع حية نحاسية وكل من ينظر للحية ويكون معضوضا سيشفي، رمز خطير فى العهد القديم كله، أتعب اليهود كثيرا، ما هى الحية؟ فجاء إنجيل يوحنا يقول: كما رُفِعَت الحية فى البرية، كما رفعها موسى على العصا، كذلك سيُرفع ابن الإنسان على الصليب، من أجل أن يشفى كل من رآه. رمز ظل مغلقا حتى بعد أن قاله المسيح، فالرمز القديم بديع والجديد أبدع، فأنا محصور بين رمزين، فلابد أن أشرح الأول والثاني، فى الأول صوِّرت الخطيئة فى حية، وهذا مستمد من قصة آدم، فالحية النحاسية رمزٌ ضارب إلى بعيد، وجاء المسيح، وهذا ما أتعب اللاهوتيين كثيرا، لماذا قال يوحنا إن المسيح رُفع، وفات عليهم أن الحية رمز الخطيئة، والحية النحاسية ميتة، فالمسيح سيموت، رمز الحية الأول ميت، فالرمز هنا تحقق بحية – الخطيئة - ميتة فى المسيح، فالخطيئة ماتت فى المسيح، المسيح أمات الخطيئة. هدى وصفي: لو سمحت لي، فأنا أتصور أن سؤال الدكتور جابر مرتبط أكثر بالصور البلاغية. متى المسكين: أنا مضطر هنا أن أتكلم عن الرموز لأﻧﻬا أقرب إلى ما أريد، فالرمز مرتبط بالحقيقة والروح. المسيح قال: أنا هو باب الخراف، كل من يدخل عن طريقى يصبح راعيا، ومن لا يدخل عن طريق الباب لا يصبح راعيا. إنه هنا وضع رمز الباب، وبعد ذلك قال: أنا الباب والطريق، فأصبح رمزا. جابر عصفور: أود أن أسأل سؤالا قد يبدو ساذجا على نحو ما، ما الذى يجعل من هذا رمزا ويخرج ذاك من الرمز؟ فى الشعر هناك مشكلة، كيف نحدد الرمز؟ فنحن نستطيع فهم ليس فقط النصوص المقدسة ولكن أيضا النصوص الأدبية إذا كان عندنا ما يشبه المعيار الذى يحدد لنا ما الرمز، فلماذا الخمر رمز؟ والكرم رمز؟ والنار رمز؟ والنور رمز؟ متى المسكين: هذا من تراثنا القديم، من التراث الفرعوني، لماذا الإله شمس؟ أو قمر أو ثعبان أو صقر؟ لماذا الرموز؟ لقد جاء إخناتون وحلها. قال: الإله واحد وكل هذه رموز، والرمز فى العهد القديم مؤله، وفى العهد الجديد: لماذا الماء رمز؟ لأن الماء يعطى حياة، فحين يقول أنا ماء حي، معروف أن هذا الرمز يحمل أقوى صفة يمكن أن نسقط عليها الشخص، فلا أستطيع أن آتى برمز لا يحمل صفات أساسية فى الشخص وإلا تصبح صورة مهزوزة، فحين ترى الصور التى أخذها المسيح وأحلناها إلى رموز، تجد مجموعها يكوِّن صفات المسيح. هدى وصفي: يمكن أن يكون رمزا ولكنه ليس حقيقيا، ويمكن جزئية معينة تذكر، لكن ليس شرطا أن تكون مبنية على شكل من أشكال التعبير، فأنت تقول لابد أن تكون هناك جزئية متحققة كى تصلح لأن تكون رمزا. متى المسكين: هذا فى الشعر والأدب، ولكن فى المسيح لا، فحين أقول الماء الحى فهذا تعبير حقيقى وليس رمزيا، وحين قال: يخرج من أمام عرش الله ﻧﻬر، هذا ليس رمزا ولكنه وصف لواقع. فالمسيح حين يقول: أنا راعى الخراف، هذا ليس رمزا ولكن حقيقة على أساس أننا خراف ناطقة، لو أنك أخذﺗﻬا على أﻧﻬا خراف عادية تصبح رمزا، ولكن لو عرفت من المضمون أن الخراف ناطقة وأننا جميعا خراف الله، وأن الخراف حينما تخلص جدا تصبح ذبائح إلى الله، نقدم أنفسنا ذبائح إلى الله، فالوصول من الرمز الشكلى إلى الحقيقة الإلهية فاتت على كثيرين، فهى ليست رموزا بل حقائق. نصر أبو زيد: الرمز هنا مرتبط بالعالم الجزئي. متى المسكين: بمفهوم العالم الجزئى هو رمز ولكنه بمفهوم المطلق ليس رمزا. جابر عصفور: معنى ذلك أن الرمز ليس استعارة لأن الاستعارة لها معنيان، أولهما لا معقول، وثانيهما هو المعقول والمقصود، والرمز عندك معقول كله. وكل رمز هنا له معنيان: معنى ظاهرى وهو حقيقي، فنحن خراف بالفعل فى ﻧﻬاية الأمر، وله معنى ثان من حيث دلالته على الحقيقة المطلقة الكلية. وعلى هذا الأساس لو قلنا إن العرش الإلهى يتفرع منه ﻧﻬر فهذا حقيقى على المستوى الظاهرى للرمز، ولكن له معنى ثانيا مرتبطا بما كنت تسميه الشرح. ﺑﻬذا المعني، الرمز ليس له علاقة بالاستعارة، لأن الاستعارة بالمعنى البلاغى ظاهرها غير حقيقي، فإذا قلت مثلا رنت لنا ظبية وأنا أقصد فتاة جميلة، فالظاهر هنا غير حقيقي. متى المسكين: لذلك، فمن الأدب الدينى أن لا نوقع الرموز على الله إلا إذا كانت من واقع الله الرحمن الرحيم. ولا اخترع كلمات، فليس مصرحا لى أن أعطى رموزا للمسيح إلا إذا كانت من صميم الصفة الطبيعية فيه. هدى وصفي: هذا ليس رمزا، بل حقيقة. متى المسكين: بشكل رمزي، فحين أقول الله ماء، أو أنا الماء الحي، هذا رمز ظاهري. هدى وصفي: ولكن كيف يتحقق فى العالم المطلق؟ فلو قلنا إن الله ماء، كيف يتحقق ذلك فى العالم المطلق؟ لا يتحقق، لأن الله لن يكون على شكل ﻧﻬر فى العالم المطلق. متى المسكين: هنا يعجز العقل، هنا الرمز فى شكله الظاهرى العقل يحصره، ولكن حين أرفعه للمطلق لا أستطيع أن أحصر الله فيه، وأقول الله ﻧﻬر أم لا. هنا أكون قد حصرت الله وهذا تجديف. لا أستطيع أن أحصر الله فى ﻧﻬر أو ماء وإنما أستطيع القول إن الله كان ماء. هدى وصفي: هذا - فى اللغة العربية - تشبيه. جابر عصفور: هناك قضية أنت تلح عليها سواء فى المدخل أو الشرح وهى قضية رؤية الله، أنت تعطيها اهتماما، فمثلا فى تفسير القرآن هناك آية: "وجوه يومئذ ناضرة إلى رﺑﻬا ناظرة"، هناك اختلاف فى تفسيرها، بعض المفسرين من أهل الظاهر يقولون الرؤية بمعناها العادى، وطبعا يؤخذ عليهم أﻧﻬم وقعوا فى التجسيد. وهناك مفسرون يقولون برؤية القلب، ومفسرون آخرون، وهم من المعتزلة، يقولون الرؤية هنا مجازية، بمعنى التوجه إلى الله، لكنك هنا تقول شيئا مختلفا. متى المسكين: رؤية الله لا يمكن أبدا أن يحصرها العقل ولا يصفها، ولا اللغة تستطيع أن توقعها فى معان، ولكن هل تمَّتْ؟ نعم. كيف؟ لا يمكن التعبير عن ذلك. رؤية المطلقات غريبة عن العقل والمنطق، ورؤية الله موهبة عظمى للوعى الكامل للإنسان، خصوصا عندما يتدرج من حق إلى حق حتى يُستأمن أن يواجه الرؤية. هنا ينبهر العقل ويرتد محسورا، وحين تسأل متصوفا: ماذا رأيت؟ يقول رأيت ﺑﻬجة. صف. لا يمكن. لماذا؟ لأنه أراد أن يسقطها على المحدود، وهذا مستحيل، ولكن أنت سوف ترى الله حينما تكون فوق، وتحسه وتعبده. ولكن كيف؟ لا يمكن التعبير. ونحن الآن عندما نعبد الله نحاول أن ندخله فى صور. نصر أبو زيد: أنت قلت فى عبارة مهمة جدا أريد أن أربطها بمسألة الرمز، إن المسيح كلمة الله وأيقونة الله، وهذا يفسر مسألة الرمز بالنسبة لي، فالمسيح كلمة حين تجسدت تحول المسيح إلى رمز دال على الأصل، فعندى هنا رمز وعندى مرموز كلى مطلق، هل مقولة الرمز فى المسيحية أى التأويل الرمزى خاضع لهذه البنية؟ متى المسكين: أى بنية؟ نصر أبو زيد: أن المسيح أيقونة الله، فإذا استبدلنا بكلمة المسيح هنا كلمة رمز، فهمنا أن المسيح أيقونة الله لأنه جاء لتخليص البشرية، وفهمنا من الأيقونة الإلهية أن الروح الكلى الذى تجسد فى شكل ناسوت، هذا الناسوت هو الله وهو المسيح فى الوقت نفسه، هنا شيئان ولكنهما فى الواقع شيء واحد، العقل يدركهما اثنين ولكنهما واحد، رمز جزئى فى واقع يرمز إلى كلى فيما وراء الواقع. متى المسكين: فى الحقيقة، الشيئية هنا احتملت الحلول فلم تعد شيئية، فالمسيح عندما حل فى الناسوت، الكل حل فى الجزء ولكن الجزء لم يعد جزءا، الكل انفرش على الجزء، والجزء انفتح على الكل فأصبح المحدود غير محدود، وأصبح اللا محدود فى صورة المحدود، كالحلاج مثلا حين قال أنا المسيح وصلبوه، فالذى حدث أنه شعر بالكل حل فيه فغش العقل وظن أنه أصبح كلا، وفى المسيح فإن الكل فعلا حل فى الجزء فاستجاب الجزء وانفرد على الكل فلم يعد جزءا. هدى وصفي: هل تطابق مع الكل؟ متى المسكين: نعم، تطابق مع الكل. هدى وصفي: حتى فى لحظة وجوده على الأرض؟ متى المسكين: نعم. هدى وصفي: فكيف نبرر صلواته وفيها انفصال عن الكل وطلبه رفع المعاناة عنه. متى المسكين: لأنه يمثل البشرية، يمثل الإنسان. هدى وصفي: إذن هناك لحظة تكون فيها الثنائية واضحة. متى المسكين: لا، هذا سؤال صعب جدا، أوقع الكاثوليك فى الأرثو ذكس، هنا فى الحقيقة، حين نتناول الجسد نحن نتناول لقمة صغيرة ونقول نحن نتناول المسيح، الجسد هنا رمز واضح وأصبح قطعًا، ومع ذلك فإن من يتناول القطعة الصغيرة كأنما أخذ المسيح بداخله، هنا تنزهٌ خالصٌ عن المادة، المادة شكلا، ولكن الجزء انفرش وأصبح ك ً لا إلى درجة أن المسيح فيَّ، نحن نؤمن بالحلول، وهنا الجزء أصبح ك ً لا، لدرجة أننى حين أصلى على القربان وأقول هذا جسد المسيح وفق كلامه، ونأخذ القطعة الصغيرة نعتبر أننا أخذنا المسيح بداخلنا، ونحس، وليس هذا تصورًا وإنما قوة، وربما أتكلم بلغة أخري، هنا انتقال إلى شيء إلهي، لذلك أقول إن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذى أعطى له أن يحول الزمن إلى خلود، والشيء إلى المطلق. جابر عصفور: ولكن هذا مفهوم مختلف عما نعرفه عن الرمز، فأنت جعلتنى أتصور أن الرمز أيقونة الله تماما مثلما المسيح أيقونة الله، وهذا ليس مفهومنا عن الرمز، هنا هو الصورة التى يتجلى ﺑﻬا المعنى الإلهى كى ندركه. متى المسكين: لا الرؤية ولا التجسد يؤديان إلى شيء، فمن رآه اعتبره إنسانا عاديا، هنا الاستشفاف أو الوعى الروحى المنفتح، فيرى ما لا يرى ويدرك ما لا يدرك، وهذه عظمة الإنسان. جابر عصفور: هل من يؤكد هذه الفكرة أن كل الرموز المستخدمة هى ظواهر الطبيعة؟ متى المسكين: ليس لدينا مجال آخر. نصر أبو زيد: وهذا سؤالى عن الحقيقة واﻟﻤﺠاز، نحن نستخدم اللغة ونقول: الله قادر وعالم، ونستخدم نفس الصفات عن الإنسان، أين الحقيقة وأين اﻟﻤﺠاز؟ متى المسكين: أقول لك، وهنا لمسة صوفية، الإنسان غير قادر وغير عالم إطلاقا، الإنسان قادر بالله، لو لم يجعلك الله قادرا فلن تكون، فالقدرة المنسوبة للإنسان مجازية ومأخوذة تجاوزا من الذى هو قادر على كل شيء! هدى وصفي: حتى لو هو غير مدرك وغير معترف؟ متى المسكين: حتى لو تجبر واحد وقال أنا قادر بغير الله، نقول له تفضل وارفع هذا الكرسي، فيحاول رفعه فلا يقدر، هنا يتدخل الله، هل يؤمن أم لا يؤمن؟ والله فعل هذا كثيرا، الإنسان ليس عنده شيء، هذا تكبر وانتفاخ، وهذه كلها سرقة مباحة، فالله سمح أن نسرق صفاته ونتكبر ﺑﻬا، ولكن لا يوجد إنسان عالم بذاته وقادر بذاته.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;