دخلت محاولة انتحار الراهب "فلتاؤس المقارى"، يومها الثالث، مازال يرقد فى غرفة رعاية مركزة بالدور الثانى بمستشفى الأنجلو أمريكان، توقف عن مصارعة الموت الذى أراده حين حاول الانتحار عبر وسيلتين، الأولى حين شرع فى قطع شرايين يديه، والثانية بالقفز من أعلى عيادة الدير بعدما حاول زملائه إسعافه، وكل ذلك يجرى فى دير لم يتم التوصل إلى قاتل رئيسه الأنبا ابيفانيوس حتى اليوم، الدم لم يجف على الأرض، ومعارك الرهبان تتم فوق جثته.
"فلتاؤس" الذى يبلغ من العمر 35 عامًا، بدأت حالته فى التحسن، الموت الذى قرر أن يذهب إليه، لم يقبله الآن، وتحسنت حالته الصحية بعدما عملت المستشفى على نزع أنبوب الأكسجين مثلما قالت مصادر طبية، حيث تتجه حالة الراهب للتحسن التدريجى بالشكل الذى قد يسمح باستجوابه بعد نقله لغرفة عادية حين يقرر الأطباء ذلك.
فلتاؤس.. حالته تستقر والمستشفى تنزع عنه جهاز الأكسجين
مازالت أسرته تحيط غرفته، وهى تكذب رواية الانتحار التى عجز عدد غير قليل عن الأقباط عن تصديقها، رغم ثبوتها على لسان الآباء الرهبان الذين اصطحبوه حتى مستشفى الأنجلو أمريكان قادمين من وادى النطرون فى السيارة التى عبرت به من الموت إلى الحياة مرة أخرى.
لماذا يرفض الأقباط تصديق روايات القتل والانتحار بالأديرة؟
الصورة الطوباوية للرهبان، رجال لله المخلصون، الزاهدون الذين تركوا مباهج الحياة نحو موت عن العالم وفقر اختيارى، تخلى طوعا عن كل شئ من أجل البحث عن الخلاص مع الرب فى تلك الصحارى القفارى التى تمتلئ بأثر شيوخ البرية الأوائل، مؤسسو الرهبنة الذين حملوا على أكتافهم تلك الكنيسة العريقة، فقايضوا مستقبلها بدمائهم.
الصورة الذهنية عن هذا المجتمع المغلق الملئ بالأسرار تتكسر فى عيون شعب الكنيسة، وعن ذلك قال مينا ثابت، الباحث فى قضايا الأقليات والدين والصراع بجامعة أبردين باسكتلندا، إن هناك بعد متعلق بالثقافة المسيحية المرتبطة برجال الدين أو بالأخص الرهبان، ففى الموروث الثقافى القبطى هنالك مكانة كبيرة لرجال الدين، باعتبارهم أفراد "ماتوا عن العالم" ووهبوا ذواتهم لخدمة الإيمان والصلاة والتعبد فى الجبال
وأضاف ثابت: "تكونت صورة طوباوية، نقية لا تشوبها شائبة عن جميع مرتدى عباءة الرهبنة، فبالتالى يصعب على الأفراد المسحيين الاعتقاد بأن أحد المنتمين أو القريبين من هؤلاء(الملائكة) قد يقدم على ارتكاب فعل شنيع أو شّر عظيم".
أما عن البعد الاجتماعى لتلك القضية، أكد الباحث فى قضايا الأقليات والدين والصراع بجامعة أبردين باسكتلندا، على أن هذه الخلفية قد تمثل تحديًا أو حساسية شديدة لدى العديد من المسيحيين فى تقبل سيناريو أن يكون مرتكب جريمة قتل نيافة الحبر الجليل الأنبا إبيفانيوس من الرهبان، أو شخص مسيحى يعمل بالدير مثلًأ، ولكن لابد من تقبل كونها إحتمالية ممكنة الحدوث
وأوضح ثابت، أن هناك صراعًا بات معلومًا للجميع داخل بعض الأديرة والقطاعات، وكان ظاهرًا بشكل جلى فى خطاب القائمقام الأنبا باخوميوس فى حفل تجليس البابا تواضروس الثانى حينما قال: "الكنيسة مفهاش صراع"، واتخذ أشكالا أكثر وضوحا بخروج عدد من البيانات والإعلانات من بعض الأساقفة بشكلٍ منفرد للتعليق على أمور خلافية عقائدية (أزمة تناول المرأة الحائض، مثلًا).
واستطرد الباحث فى قضايا الأقليات والدين والصراع بجامعة أبردين باسكتلندا: "كل ذلك يشير إلى أنه هناك مساحة من الصراع على توجهات البطريرك الجديد، وهذا الصراع لا يعنى بأى شكل من الأشكال أن هنالك فريقين يقفا على خطين متقابلين شاهرين المدافع فى وجه بعضهم البعض، ولا يعنى بالضرورة أن هذا الصراع هو صراع عنيف، أو دموي! ولكن أيضًا يمكن من المحتمل أن يغرد "فردًا" خارج حدود هذا الصراع "غير العنيف" ويرتكب خطأ يتسم بالعنف، وهذا لا يعنى بالضرورة تحول فى طبيعة الصراع الكلية أو فى فهمنا للصراع من الأساس. ولكنه بالضرورة هو نقطة هامة فى الصراع ذاته".
واستنتج ثابت من تحليله، أن ارتداء الأشخاص لعباءة الدين لا يعنى بالضرورة كونهم معصومين من الخطأ، أو يستحيل عليهم الإتيان بفعل شنيع أو ارتكاب جريمة.
تفاصيل ليلة المفاوضات الأخيرة بين الكنيسة ويعقوب المقارى
فى نفس السياق، فإن ملابسات متضاربة أحاطت بقرار البابا تواضروس تجريد الراهب إشعياء المقارى من الرهبانية وإعادته لاسمه العلمانى، حيث تسرب من الكاتدرائية خطاب يفيد تجريده مع زميله "يعقوب المقارى" بطل أزمة دير السيدة العذراء والأنبا كاراس السائح بوادى النطرون والتى بدأت منذ ثلاث سنوات، وصفت الكنيسة خطاب تجريد الراهبين بغير الدقيق، خاصة وأنه خرج قبل أن يوقعه البابا ودون ختم الكنيسة، وفى اليوم التالى مباشرة، أصدر البابا تواضروس خطاب تجريد إشعياء المقارى بخط يده، خاصة أن القرار كان يستلزم توقيع رئيس الدير مثلما تنص قوانين الكنيسة، إلا أن قتله حال دون ذلك، فكتب البابا الخطاب بيده وأتاحته الكنيسة للصحافة والرأى العام.
ما بين الخطابين، ليلة من المفاوضات قضاها الأنبا دانيال سكرتير المجمع المقدس والأنبا متاؤس أسقف ورئيس دير السريان بوادى النطرون، فى دير السيدة العذراء والأنبا كاراس بوادى النطرون، وهو الدير غير المعترف به حتى اليوم، ويسيطر عليه الراهب "يعقوب المقارى".
يعقوب المقارى، هو راهب من رهبان دير أبو مقار، كان قد رسمه (عينه) البابا شنودة ضمن دفعة 2010 التى ترهب فيها كلا من إشعياء المجرد من رهبانيته وفلتاؤس الذى حاول الانتحار، وقد شرع يعقوب وقبل وفاة البابا الراحل فى بناء دير يحمل اسم القديس الأنبا كاراس السائح، بصحراء وادى النطرون بعدما حصل على أرض مملوكة لسيدة قبطية تعيش بالخارج، بالإضافة إلى تبرعات من الأقباط بلغت 33 مليون جنيه مصرى بأرقام عام 2012.
تمكن "يعقوب" من بناء أجزاء كبيرة من الدير، وحاولت الكنيسة التفاوض معه من أجل تسجيل أرض الدير باسم البابا تواضروس الثانى بصفته وليس شخصه باعتباره بابا الكنيسة القبطية وكما هو الحال فى أراضى كافة الأديرة، إلا أنه اشترط أن يصبح رئيسًا للدير مرة، ومرة أخرى يؤكد على أن صاحبة الأرض تريد أن يظل الدير باسمها وباسم عائلتها.
المفاوضات مع الراهب انتهت بصدور قرار تسريحه من دير الأنبا مقار عام 2015 وصدور بيان رسمى موقع من الأنبا ابيفانيوس أسقف ورئيس الدير يؤكد فيه قطع أى علاقة بين دير الأنبا مقار وبين الراهب المذكور، مع التحذير من أية معاملات مالية تتم معه.
هل نجح الأنبا دانيال ومن معه فى السيطرة على دير خارج عن طاعة البابا؟
فى ليلة المفاوضات الأخيرة التى قادها الأنبا دانيال بحنكته المعروفة، قررت الكنيسة تأجيل قرار تجريده بعدما تم التوصل لاتفاق ضمنى مع الراهب يعقوب كشفت عنه المصادر، يفيد بضم الدير لإشراف الأنبا متاؤس وآباء دير السريان، حتى يتم الاعتراف به من قبل الكنيسة القبطية رسميًا.
مصدر من دير السريان قال لـ"انفراد"، إن الوفد الذى تفاوض مع الراهب كان بينه الأنبا متاؤس رئيس دير السريان، باعتباره عضوا فى لجنة شئون الأديرة بالمجمع المقدس، مؤكدًا على أن الكنيسة لا تستطيع أن تطلق على هذا المكان ديرا حتى الآن ولم تختر له مشرفًا لأنه لم يدخل تحت إشرافها رسميًا خاصة وإن الراهب يعقوب يشكل صداعًا فى رأس الكنيسة منذ ثلاث سنوات.
وأوضح المصدر، أن يعقوب المقارى، له باع طويل فى التحايل على الكنيسة وعلى ملاك الأرض الأصليين وعلى الأديرة المجاورة وعلى لجان مجمعية سابقة، فليس الأمر بالسهولة التى تتوقعها الكنيسة من رجل يجيد الاحتيال.
يستلزم بناء دير قبطى فى مصر، ووفقا لقانون الكنيسة الحصول على إذن من بطريركية الأقباط الأرثوذكس موقعًا من البابا تواضروس الثانى باعتباره الرئيس الأعلى للأديرة المصرية ومدبرها الروحى، وفقا لما يؤكده الأنبا مرقس أسقف شبرا الخيمة وهو نفس الأمر المنصوص عليه فى لائحة الأديرة التى أصدرها البابا تواضروس عام 2013، ومن ثم فإن تلك الأديرة التى لم تحصل على هذا التصريح قبل إنشائها لا تتبع الكنيسة القبطية وليس للكنيسة أى سلطة عليها.
وأوضح أسقف شبرا الخيمة، فى تصريحات خاصة لـ"انفراد"، الخطوات اللازمة للحصول على إذن كتابى من بطريركية الأقباط لبناء دير، فى البداية لا بد من الحصول على الإذن قبل شراء الأرض، ووجود تجمع رهبانى يرغب فى الإقامة بالدير ثم البدء فى شرائها بناءا على ذلك ويفضل أن تكون بالمنطقة حياة رهبانية سابقة ويعيد الدير الجديد إحيائها من جديد، وتسجل أرض الدير باسم بابا الإسكندرية بصفته أو أحد الأساقفة مندوبًا عن البابا ووكيلًا عنه، ويعرض الحاصل على التصريح الذى يشترط أن يكون من إكليروس الكنيسة، سواء أحد الآباء الرهبان أو الأساقفة، الرسم الهندسى للدير المراد بنائه على البطريركية مرة أخرى، ليحصل على الموافقة، وبناء على هذا التصريح، تنتدب الكنيسة أحد الآباء الرهبان أو الأساقفة للإشراف على عملية تمويل بناء الدير إما عن طريق التبرعات للكنائس أو جمع الأموال بأى طريقة بنكية أو نقدية على أن يتم تقديم ما يفيد ذلك وموافاة الكنيسة أولًا بأول، وينتهى هذا الإجراء ببناء الدير، وفى النهاية تعمل الكنيسة على انتداب أحد الأساقفة أو الرهبان للإشراف على الحياة الرهبانية الجديدة فى هذا الدير، التى عادة ما تبدأ برهبان فى أديرة أخرى يبدأون فى تعمير الدير الجديد حتى يتثنى للدير قبول طالبى رهبنة جدد.
وتابع الأنبا مرقس: "الخطوة الخامسة، هى استيفاء الشروط والمعايير، وانتظام الحياة الروحية والديرية بالدير الجديد والتقدم للجنة شئون الأديرة بالمجمع المقدس من أجل الحصول على اعتراف المجمع المقدس بهذا الدير، حيث تنتدب لجنة شئون الأديرة لجنة من الآباء الأساقفة لمعاينة الدير والتأكد من استيفائه للشروط والمعايير وتصدر تقريرا بعد ذلك يرفع للمجمع المقدس عن تفاصيل الحياة داخل الدير وهل يستحق الحصول على اعتراف المجمع أم أن الوقت مازال أمامه لترتيب وتنظيم الحياة الرهبانية فيه".