ذهب محمد فايق، مسؤول الشؤون الأفريقية فى رئاسة الجمهورية والمخابرات العامة، للقاء الرئيس جمال عبدالناصر فى الإسكندرية مساء يوم 22 أغسطس «مثل هذا اليوم 1960»، وحسب «فايق» فى مذكراته «عبدالناصر والثورة الأفريقية»: «كلفنى بالسفر إلى عاصمة الكونغو «ليوبولدفيل» لمقابلة الرئيس لومومبا، وحملنى رسالة إليه، ولم يكن للقاهرة تمثيل دبلوماسى مع الكونغو حتى ذلك الوقت».
كان لومومبا يقود نضاله لاستقلال بلاده عن الاستعمار البلجيكى الذى ارتكب جرائم منها وفقا لفايق: «فى يناير سنة 1960 عندما تقرر استقلال الكونغو لم يكن هناك أفريقى واحد من الوطنيين يشغل منصبا فى الحكومة، وكان عدد الوطنيين فى الجهاز الإدارى كله 640 جميعهم فى الوظائف الدنيا، ولم يكن هناك أعداد تذكر من الأفريقيين خريجى الجامعات، ولم يكن هناك وطنى واحد برتبة ضابط فى الجيش الكونغولى حيث اقتصرت هذه المهمة على البلجيك وحدهم».
تعرف لومومبا «مواليد 2 يوليو 1925» على «فايق» عام 1958 فى العاصمة الغانية «أكرا» أثناء انعقاد مؤتمر الشعوب الأفريقية، وحسب فايق: «نشأت بيننا علاقة قوية أساسها انبهار لومومبا الشديد بما حققه عبدالناصر لتخليص بلاده من الاستعمار الإنجليزى، والذى يعنى الأمل لبلد غنى مثل الكونغو يمتلك الشركات الأوروبية كل شىء فيه»، ويكشف فايق: «كنت أراسله على عنوان صندوق بريد فى «برازافيل» عاصمة الكونغو الخاضعة للاستعمار الفرنسى، ويبدو أنه اختار هذا العنوان لأنه أراد أن يخفى هذه الصلة».
يعدد «فايق» أسباب مساندة مصر له قائلا: «تأمين منابع النيل كهدف من أهداف الاستراتيجية المصرية، ومتاخمة الكونغو لجنوب السودان تجعل له أهمية خاصة، فمشكلة الجنوب فى السودان والمحاولات المستمرة للانفصال كان يغذيها الوجود الاستعمارى فى المناطق المحيطة به، وكان حل هذه المشكلة مرهونا بوقف النشاط المعادى للسودان فى الدول المتاخمة».
أسس «لومومبا» حزب الحركة الوطنية الكونغولية، وفاز بانتخابات عام 1960 وأصبح رئيسا للوزراء، لكن بلجيكا والمخابرات الأمريكية صمموا على إجهاض تجربته، وحسب فايق، فإن عبدالناصر كان قلقا بشدة على الأوضاع فى الكونغو التى شهدت إرسال قوات إليها باسم الأمم المتحدة وكانت قوات مصرية ضمنها برئاسة العقيد سعد الدين الشاذلى.
يؤكد فايق، أن العلاقة بين لومومبا والسكرتير العام للأمم المتحدة ساءت، فطلب إرسال قوات عسكرية أفريقية خارج نطاق الأمم المتحدة، ورأى عبدالناصر أن ذلك سيعطى الفرصة لعودة القوات البلجيكية وتدخل أمريكا، فطلب من فايق أن ينقل إلى لومومبا هذا الرأى، بالإضافة إلى نصائح أخرى أبرزها ألا يتمسك بعقد مؤتمر القمة الأفريقى الذى دعا لانعقاده فى «ليوبولدفيل» لأنه سيؤدى لانقسامات خطيرة بين الأفريقيين مما يشل حركته السياسية، وطالبه بأن يعتمد على الدول الأفريقية الثورية مثل غانا ومالى وغينيا ومصر.
يتذكر فايق ما ذكره له عبدالناصر: «لومومبا سيواجه معركة شرسة وسيحاول الاستعمار أن يجعل من حكومته أمثولة بقصد إرهاب الدول الأفريقية التى استقلت، ويريدون لها أن تكتفى بعلم ونشيد الاستقلال، وأن تعرف أنه غير مسموح لها أن تفكر فيما هو أبعد من ذلك».. يعلق فايق: «كان عبدالناصر محقا فى قوله، فعدد الدول التى استقلت فى هذا العام «1960» ثمانية عشرة دولة، معظمها كانت تحتلها فرنسا، ووضع هذا التطور أفريقيا كلها فى مزاج يشجعها على التحرك نحو مزيد من التحرر، وأصبح هناك اعتقاد بأن كل شىء بات ممكنا أمام القوى الوطنية، والاستعمار فى طريقه إلى الزوال تماما.. وكان الكونغو بثرواته الضخمة معقلا للاحتكارات الاستعمارية ونموذجا لتشابك المصالح ورؤوس الأموال الأوروبية والأمريكية، وكان ضرب الحركة الوطنية فيه معناه تغيير الوضع والمزاج العام الذى وضعت فيه أفريقيا ليتناسب من جديد مع المصالح الاستعمارية، وإن كانت لا تمانع فى رفع أعلام الاستقلال».
يضيف «فايق»: «كلفنى عبدالناصر أن أنقل مخاوفه إلى لومومبا، وإبلاغه أن القاهرة تقف معه بكل ما تستطيع، وأبحث معه ما يمكن أن نقدمه له من مساعدة.. ولم ينس عبدالناصر أن يطلب منى إبلاغه بأن القاهرة ترحب بأولاده وعائلته فى أى وقت يراه، وأنهم سيكونون تحت رعايته شخصيا»، يؤكد فايق: «كان عبدالناصر مدركا للخطر الذى تتعرض له حياة لومومبا، وأراد بهذه الدعوة أن يحرره من عبء القلق على مصير عائلته، وبالفعل حضر أولاده وزوجته بعد فترة، واضطررنا إلى تهريبهم بواسطة السفارة الدبلوماسية وبصحبة أحد الدبلوماسيين المصريين «المرحوم عبدالعزيز إسحق»، وبجوازات سفر مصرية على أنهم أبناء هذا الدبلوماسى، ودخلوا المدارس المصرية واستمروا تحت رعاية جمال عبدالناصر».
وسافر فايق إلى الكونغو على طائرة خاصة ووصل صباح يوم 27 أغسطس 1960.