وصل محمد فايق، مسؤول ملف أفريقيا برئاسة الجمهورية إلى مطار العاصمة الكونغوليه «ليوبولدفيل» صباح يوم 27 أغسطس «مثل هذا اليوم» 1960، وكان على طائرة خاصة أقلته من القاهرة ومعه عبدالمجيد فريد سكرتير عام رئاسة الجمهورية.
سافر فايق للقاء «لومومبا» رئيس وزراء الكونغو «بتكليف من جمال عبدالناصر» راجع «ذات يوم 22 أغسطس 2018»، وحسب مذكراته «عبدالناصر والثورة الأفريقية» يكشف فايق: «اتضح لنا بمجرد الوصول أن الحكومة الكونغولية لا سيطرة لها على المطار، فكانت هناك قوات تابعة للأمم المتحدة تعسكر داخله، لكنها لا تتدخل فى حركة الطائرات ولا المسافرين، وإلى أن أصبحنا خارج «ليوبولدفيل» لم نجد مسؤولا يسأل عن جوازات السفر أو إجراءات الجمارك أو غيرها من الإجراءات التى يقابلها أى مسافر، كان هناك فوضى، لدرجة أن قائد الطائرة وطاقمها اضطرا للبقاء فى المطار لحراسة الطائرة لحين انتهاء مأموريتنا ونقلع عائدين، وافترشوا الأرض تحت ظل جناح الطائرة احتماء من حرارة الشمس المحرقة».
يؤكد فايق: «هكذا كان حال الكونغو، حالة فوضى، فالأجهزة الإدارية والفنية مازال يرأسها ويتحكم فيها الإداريون والفنيون البلجيك، وهم لا يتعاونون مع السلطة الشرعية، والوطنيون تسلموا الحكم ولكن الخيوط اللازمة لتشغيل دفة الأمور لم توضع فى أيديهم، وهكذا أراد البلجيكيون للبلاد أن تصل إلى الشلل والفوضى». يوضح فايق: «طوال حكم بلجيكا للكونغو لم تقم بأى محاولة جديدة لتأهيل الوطنيين أو تدريبهم لتسلم السلطة أو الاشتراك فيها، ففى يناير 1960 وعندما تقرر استقلال الكونغو لم يكن هناك أفريقى واحد من الوطنيين يشغل منصبا فى الحكومة، وكان عدد الوطنيين فى الجهاز الإدارى كله 640 أفريقيا، جميعهم فى الوظائف الدنيا، ولم يكن هناك أعداد تذكر من الأفريقيين خريجى الجامعات، ولا وطنى واحد برتبة ضابط فى الجيش الكونغولى، حيث اقتصرت هذه المهمة على البلجيك وحدهم».
يكشف فايق ما دار فى لقائهما بمبنى رئاسة الوزراء بعد فترة وجيزة من وصوله: «أبلغت لومومبا برسالة عبدالناصر ثم بحثت معه النقاط التى كلفت بها، وبدت على ملامحه السعادة والارتياح لاهتمام عبدالناصر بقضيته وتأييده له، ثم تعرض للمشاكل الرئيسية التى تعانى منها الكونغو، فشرح حالة الخراب التى ترك فيها البلجيك خزينة الدولة، وعمليات النهب التى تمت فى الشهور القليلة التى سبقت الاستقلال، وكيف سحب البلجيك المعلمين والأطباء حتى يظهر عجز الحكومة الوطنية، فى الوقت الذى يتصور فيه كل مواطن كونغولى أن الاستقلال يعنى أن تتحسن حالته ومستواه المعيشى فورا».
يضيف فايق، أن لومومبا شرح له موقف الأمم المتحدة وخلافه مع السكرتير العام، وقيادة قواتها فى الكونغو التى احتلت المطارات دون أن يطلب منها ذلك، وتغييرها للقوات الأفريقية التى يطمئن إليها والموجودة فى مناطق حيوية، ووضع بدلا منها قوات أوروبية لا يثق فيها، وقال لومومبا، إن ذلك يتم دون علمه أو استئذانه، وهاجم السكرتير العام للأمم المتحدة بعنف، وقال إنه لا يواجه الاستعمار والأمم المتحدة فقط، ولكن هناك شخصيات كونغولية رسمية تعمل لحساب الاستعمار وأمريكا بالاتفاق مع قيادة الأمم المتحدة، وأن هذا أخطر ما يواجهه.
يؤكد فايق، أنه كان يعلم أن المقصود هو رئيس الجمهورية «كازافوبو»، بالرغم من أن لومومبا لم يفصح عن اسمه أو اسم أى شخصية أخرى، ويقارنه بلومومبا كنموذجين للقادة الأفارقة وقتئذ قائلا: «كازافوبو يمثل الذين اختاروا الطريق السهل واكتفوا بأعلام الاستقلال وللأسف كان هذا النموذج الأكثر تكرارا، أما أمثال لومومبا فكان قليلا نادرا فى ذلك الوقت، كان عبدالناصر وسيكوتورى «غينيا» ونكروما «غانا» يواجهون ظروفا صعبة، ويقاومون السيطرة الأجنبية فى إصرار عظيم حتى أثاروا حفيظة الاستعمار، وتكتلت ضدهم قوى الإمبريالية، ولكن هذه النماذج على قلتها كانت قادرة على تعبئة الجماهير وراءها».
يعود فايق إلى مقابلته مع لومومبا: «خرجت بانطباع جديد عن مدى الخطورة التى يتعرض لها، وخاصة لعبة الشرعية التى يحاول الاستعمار لعبتها للتخلص منها باستخدام كازافوبو بدلام من استخدام القوة المباشرة»، ويضيف: «فى هذه المقابلة طلب لومومبا «20 ألف جنيه استرلينى» كسلفة عاجلة لحزبه «الحركة الوطنية الكونغولية»، حيث كانت الظروف تحتاج إلى تحريك بعض أنصاره لمناطق معينة لمواجهة التكتلات الأخرى، وضروة توفر المال اللازم لإعاشتهم والإنفاق عليهم، وأرسل عبدالناصر هذا المبلغ بعد أيام قليلة مع السفير مراد غالب أول سفير لمصر فى الكونغو، وطلب لومومبا أيضا أن تمده مصر بخبراء وفنيين وتم إرسالهم فورا، وتم خلال هذه الرحلة إقامة اتصال لاسلكى مباشر بين ليوبولدفيل والقاهرة بواسطة جهاز وصل معنا على نفس الطائرة».