ذهب الرئيس جمال عبدالناصر إلى المطار لوداع العاهل السعودى الملك فيصل، ثم عاد إلى منزله بمنشية البكرى فى الساعة الثانية عشرة، وحضر الطبيب الخاص ودخل له، ثم خرج مرة ثانية إلى المطار لتوديع أمير الكويت «سالم الصباح»، وعاد فى الثالثة بعد الظهر يوم 28 سبتمبر «مثل هذا اليوم 1970»، حسبما تؤكد زوجته السيدة تحية فى مذكراتها «ذكريات معه».
قبل ذهابه لوداع أمير الكويت، ووفقًا لمحمد حسنين هيكل فى مقاله «الأربع وعشرون ساعة الأخيرة فى حياة عبدالناصر»: «دق جرس التليفون فى مكتبى، وجاءنى صوته وأحسست به متعبًا، متعبًا إلى أقصى حد. أعدت عليه حديث الإجازة، وقال: إنه سيستريح بعد وداع أمير الكويت، وسألته عما يشعر به قال: «أجد نفسى غير قادر على الوقوف». سألته: «هل رأيت الطبيب؟. قال: «كان عندى الدكتور الصاوى حبيب، وأجرى رسمًا جديدًا للقلب، وقال إن كل شىء كما هو». قلت: «وآلام الساق.. أما من دواء لها؟». قال: «سأضع قدمى فى ماء دافىء به ملح وأظن أن الألم سيتحسن، وعدت ألح فى حديث الإجازة واقترحت أن يذهب إلى الإسكندرية. قال: «لا أستطيع الذهاب متعبًا بهذا الشكل، سأنام هنا يومًا كاملًا، وبعدها أفكر».
ويضيف هيكل: «تطرق الحديث إلى السياسة كالعادة، وسألنى عن رد الفعل فى إسرائيل لاتفاق حكومة الأردن مع المقاومة «الفلسطينية»، وأجبته بملخص البرقيات التى وردت، ثم قال: «هل تعرف أن بيرجيس يقصد دونالد بيرجيس القائم على شؤون الرعايا الأمريكيين فى القاهرة- سيسافر إلى إيطاليا، ويجتمع بنيكسون «الرئيس الأمريكى»، إنه اتصل بالخارجية، أمس، وسأل إذا كان هناك ما يستطيع أن ينقله إلى نيكسون، أريدك أن تطلبه الآن وتبلغه رسالة منى إلى نيكسون، أطلب منه أن ينقل له، إننى مازلت أسعى إلى حل على أساس قرار مجلس الأمن، موقفى لم يتغير؟».
قلت له:«سأطلب بيرجيس». قال: «أطلبه الآن، ورفع سماعة التليفون الآخر، وطلبت إلى مكتبى إيصالى بدونالد بيرجيس، وقلت له:«لدى رسالة كلفت بإبلاغها إليك لتنقلها إلى نيكسون»، قال بيرجيس: «متى أجىء لك؟»، قلت: «الساعة السابعة مساء»، وأقفلت التليفون معه والرئيس على الخط يواصل الحديث، ولم يخطر ببالى أننى سأؤجل موعدى مع بيرجيس، لأن عبدالناصر سيكون رحل قبل الموعد المحدد..كانت تلك آخر مرة أسمع فيها صوته».
ويكشف هيكل عن الحالة أثناء وداع أمير الكويت: «فى الوداع أحس فى الدقائق الأخيرة أنه متعب بأكثر مما يحتمل، لكنه تماسك بجهد لا يصدق، وقبل أمير الكويت وهو يتصبب عرقًا، والدوار يعتريه. صعد أمير الكويت إلى طائرته، والتفت الرئيس يطلب سيارته، وكان ذلك على غير المعتاد فكانت العادة أن يذهب هو ماشيًا إلى حيث تقف سيارته، ويحيى جماهير المودعين، وجاءت السيارة ودخل إليها، وهو يقول لمحمد أحمد «سكرتيره»: «أطلب الدكتور الصاوى يقابلنى فى البيت».
يعود إلى البيت، وحسب هيكل: «يتوجه إلى غرفة نومه وتلحق به السيدة الجليلة قرينته، تسأله متى يريد الغداء؟.يقول وهو يخلع ملابسه: «لا أستطيع أن أضع شيئًا فى فمى»، ويرتدى بيجامة بيضاء بخطوط زرقاء، ويدخل إلى سريره، ويجىء الدكتور الصاوى، وتستأذنه السيدة الجليلة قرينته فى الخروج لأنها، كما عودها دائمًا، لا تقف فى الحجرة، وهناك فيها غيره حتى ولو كان الطبيب، ولكن قلبها لا يطاوعها على الخروج بغير سؤال لمحه الرئيس فى عينيها قبل أن تنطق به، وقال لها: «لا تخافى، أظنه نقصًا فى السكر»، وقالت بسرعة: «أجيئك بشىء؟». قال الدكتور الصاوى: «أى عصير» وذهبت هى تعصر ليمونًا وكوب برتقال، بينما الدكتور الصاوى يشعر من أول لحظة أن هناك طارئًا خطيرًا، ويخرج من الغرفة، ويطلب استدعاء الدكتور منصور فايز، والدكتور زكى الرملى، ويعود، والسيدة الجليلة قرينة الرئيس تدخل إليه حاملة كوب عصير برتقال وكوب عصير ليمون، ويختار الرئيس كوب البرتقال ويشربه، وتخرج هى ويبدأ الدكتور الصاوى محاولاته لوقف الطارئ الخطير، كان تشخيصه على الفور أن هناك جلطة فى الشريان الأمامى للقلب».
يصل الدكتور منصور فايز، ثم الدكتور زكى الرملى، ويقول هيكل: «كان التشخيص واحدًا، والإسعافات التى بدأها الدكتور الصاوى مستمرة، والرئيس منتبهًا لكل ما يجرى.. كانت الساعة الخامسة إلا خمس دقائق بالضبط.همّ الرئيس من فراشه ومد يده إلى جهاز راديو بجانبه وفتحه يريد أن يسمع نشرة أخبار الساعة الخامسة من إذاعة القاهرة.. استمع إلى مقدمة نشرة الأخبار، ثم قال: «لم أجد فيها الخبر الذى كنت أتوقع أن أسمعه»، ولم يقل شيئًا عن الخبر، وتقدم منه الدكتور الصاوى، وقال: «ألا تستريح سيادتك؟ إنك فتحت جهاز الراديو ثم قفلته ولا داعى لأى مجهود الآن»، وعاد الرئيس يتمدد تمامًا على فراشه، ويقول بالحرف: «لا يا صاوى، الحمد لله، دلوقت استريحت»، ولم يفرغ الصاوى من عبارة يقول فيها: «الحمد لله يا فندم»، ونظره مركز على الرئيس حتى وجده يغمض عينيه، ثم وجد يده تنزل من فوق صدره حيث كان وضعها، وتستقر بجواره، بعدها لم يشعر عبدالناصر بشىء لم يقل كلمة، وكانت ملامح وجهه تعكس نوعًا غريبًا من الراحة المضيئة».