غادر أحمد عرابى السويس إلى القاهرة بعد يوم من عودته من منفاه بجزيرة سيلان.. «راجع- ذات يوم 30 سبتمبر 1901»، وحسب الجزء الثالث من مذكراته، تقديم ودراسة «عبدالمنعم الجميعى»: «فى أول أكتوبر» مثل هذا اليوم 1901 «برحنا السويس ووصلنا إلى القاهرة قبل الغروب، وكان ازدحام الناس لتوديعنا فى محطة السويس عظيما، وكذلك كان استقبالنا فى الزقازيق وبنها وخصوصا فى القاهرة، فإن اجتماع الناس بلغ حده الأقصى بالرغم من تنبيه المحافظ الشديد بعدم التجمهر والاحتفاء، ولما نزلنا فى محطة القاهرة أخذنا المركبات إلى منزل أولادى بشارع الملك الناصر فى شارع خيرت، واجتمعنا بهم بعد غيابى تسعة عشرة عاما وأربعة أشهر.. وقد يجمع الله الشتيتين بعدما/ تظن كل الظن ألا تلاقيا».
امتلأت حياة عرابى بمآس إنسانية بالغة بعد العودة، حيث واجه التجاهل، والنكران، والفقر، ووفقا لمحمود الخفيف فى كتابه «أحمد عرابى- الزعيم المفترى عليه»: «أحس أنه غريب فى وطنه، فقد أنكره أكثر من كانوا يلتفون حوله إبان سلطانه، ومنهم من كان يود لو وجه إليه حينذاك نظرة، أوحياه بتحية».
يكشف «عرابى» فى مذكراته أنه فى نفس يوم عودته، كان الخديو «عباس الثانى» عائدا من مصيفه فى أوروبا إلى الإسكندرية فرأى أن يتقدم إليه بالشكر، ولم يهتم الخديو: «حررنا تلغرافا إلى رئيس الديوان الخديوى نشكر فيه الحضرة الخديوية على منحها إيانا نعمة العودة إلى وطننا العزيز، ونطلب الترخيص لنا فى الذهاب إلى الإسكندرية، للتشرف بمقابلة الخديو المعظم وتأدية واجب الشكر لجنابه الكريم بنفسى، ولكن مع الأسف العظيم لم يحز هذا الطلب قبولا».
زار رئيس مجلس النظار مصطفى باشا فهمى، وناظر الخارجية بطرس باشا غالى، وناظر المالية أحمد باشا مظلوم، وناظر الحقانية إبراهيم باشا فؤاد، وناظر الأشغال والمعارف حسين باشا فخرى فى بيوتهم، وزار ناظر الجهادية عبانى باشا فى ديوان الجهادية، ووكيل المالية المستر ميشل، ومستشار المالية السير غروست، ثم اللورد كرومر فى الوكالة الإنجليزية، لكن وحسب تأكيد «الخفيف»، فإن أحدا ممن زارهم فى بيوتهم لم يرد له الزيارة «وخشى كبار الموظفين الاتصال به، وإلا أغضبوا الخديو، وكذلك أصدر كرومر أوامره للوزراء ألا يتصل به أحد».
كانت أكبر آلامه هى، تنكر وتجاهل رفاق الثورة وأصدقاء الحياة له، وحسب الخفيف: «كان فى مقدمة الذين تنكروا له، على فهمى باشا زميله فى الثورة والمنفى، وإبراهيم باشا فوزى مأمور ضبط القاهرة إبان الثورة، والشيخ محمد خليل الهجرسى الصديق الوفى، والزبير باشا، ومحمد بك الزمر والسيد باشا شكرى المهندس، وأحمد بك ناشد مدير الشرقية أثناء الحرب، ورزق حجازى بك من رجال الثورة، وعبدالحميد باشا العبادى، وأحمد حمدى باشا، والشاعر حافظ بك إبراهيم، والدكتور محجوب ثابت، ومحمد بك أبوشادى، وعلى بك آصف، ولم يزره محمود سامى البارودى إلا بعد عودته بأسبوع، ولم يزره بعدها أبدا».. كان البارودى منفيا معه 16 عاما، وعاد يوم 12 سبتمبر 1899.
فتحت جريدة «اللواء» برئاسة مصطفى كامل النار عليه، ففى يوم 29 سبتمبر 1901 نشرت قصيدة «عرابى وما جنى» لأمير الشعراء أحمد شوقى وفيها: «صغار فى الذهاب وفى الإياب/ أهذا كل شأنك يا عرابى؟»، وحسب «الجميعى»: «اتهمه مصطفى كامل بالجبن، وبأنه أدخل الاحتلال قاصدا متعمدا، كما أطلق على ثورته «الفتنة العرابية».. ويذكر «كامل» فى «اللواء» يوم 3 أكتوبر 1901: «ما عار الاحتلال، وماعار الجهالة والتأخر وعار الفقر بشىء يذكر إذا ماقورن بالعار الذى يحمله عرابى، ويقرأه الناس على وجهه أينما سار وأينما حل، وأى عار أكبر من عار رجل تهور جبانا واندفع جاهلا، وساق أمته إلى الموت الأدبى والاستعباد الثقيل».
رد عرابى: «لم يرق فى نظر خصومنا الجهلاء رجوعنا إلى وطننا العزيز لظنهم أننا بعنا وطننا إلى الإنجليز على اتفاق بيننا وبينهم، فأوعزوا إلى الجرائد المأجورة وفى مقدمتهم جريدة «اللواء»، فوجهت إلينا سهام جهلها وأماطت عنها لثام الوطنية».. استهدفت «اللواء» سحب أى رصيد وطنى من عرابى، فى وقت وصلت معاناته إلى حالة «ضيق ذات يده، فالمعاش لم يكن يكفيه هو وأسرته الكثيرة العدد»، حسب تأكيد محمود الخفيف.
كان من نتائج شحن «اللواء» حسب صلاح عيسى فى كتابه «الثورة العرابية»: «قبل أن يموت عرابى بشهور كان خارجا من المسجد الحسينى عقب صلاة العشاء فى إحدى ليالى رمضان، فإذا بشاب يبصق فى وجهه صائحا «يا خائن» ومسح الرجل وجهه، وأغلق باب منزله على نفسه شهورا طويلة، ويوم مات لم يجد أهله فى بيته نفقات جنازته وتجهيزه فكتموا نبأ الوفاة إلى اليوم التالى، حيث كان مقررا أن تصرف المعاشات قبل موعدها لمناسبة حلول عيد الأضحى، وخرجت إحدى الصحف تكتب فى مكان متواضع: «علمنا أن المدعو عرابى صاحب الفتنة المشهورة باسمه قد توفى أمس».. يعلق «عيسى»: «الذى بصق فى وجه عرابى، والذى نشر نبأ نعيه، والذى تركه يعانى الحاجة، لم يكن مصر، ولكنه جزء من أمة الخيانة، جزء من مصر المحتلة».