ـ كرمه السيسي لدوره ومنحه نجمه "سيناء"
ـ حفظ السر لمدة 40 عاما
لا يمكن انكار دوره، فمع كل مرة تحتفل فيها مصر بتخليد ذكرى نصر اكتوبر المجيد، يُشار إليه بالبنان ونجد أنظار العامة تتجه إليه فترى وجها بشوشا لا تختفى عنه الإبتسامة يحمل لونه ملامح أبناء مصر، وتحكى عيناه عن دوره العظيم الذى قام به وظل مجهولا سنوات طويلة حتى جاء الوقت ليسدل الستار عنه.
هذا هو النقيب أحمد إدريس البطل المصرى صاحب فكرة استخدام " الشفرة النوبية " فى حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر المجيدة لتضليل العدو وتحقيق النصر، و أحد ابطال الجيش المصرى ، أحمد إدريس ابن محافظات الصعيد قضى 40 عاما من عمره فى الجيش المصرى مشاركا معه فى العديد من الحروب بداية من حرب اليمن 1956 وحرب الاستنزاف 1971 وصولا إلى حرب اكتوبر 1973 .
وكانت فكرة "إدريس" وقتها لاستخدام الشفرة جديدة من نوعها، بعد بحث دام لفترات طويلة عن الأساليب والطرق التى تمكن افراد الجيش من التواصل باستقبال وإرسال الإشارات دون أن يكتشفها العدو، فاقترح اختيار اللغة النوبية لتكون إحدى تلك الطرق والتى كان لها دور كبير فى اخفاء تحركات الجيش فى سيناء وعدم قدرة العدو على فكها او فهمها.
يحكى "أدريس" فى احدى حواراته الصحفية مع "انفراد" قائلا: اجتمعت القيادات لبحث حل مشكلة فك الشفرة العادية من العدو وكنت تحت قيادة رئيس الأركان وبناء على ذلك تم تنظيم مؤتمر للقيادات لبحث حل مشكلة فك الشفرة العادية من العدو، وكنت وقتها أعمل شاويش تحت قيادة رئيس الأركان، وأثناء مناقشتهم وجدنى رئيس الأركان اضحك فسألنى عن السبب أخبرته ان الحل بسيط يكمن فى استخدام اللغة النوبية فى عمليه الارسال والاستقبال خاصة وأنها لغة غير معروفة للعدو ويصعب عليه تفسير حروفها".
اقتراح إدريس الذى لاقى ترحيبا واسعا من قبل قيادات الجيش وقتها، وصل إلى الرئيس الراحل أنور السادات وعلى الفور طلب الأخير لقاءه فى واقعة طريفة يحكيها إدريس قائلا: ذهبت للقاء الرئيس السادات فى قصر الاتحادية "مكلبش بالحديد" ولم اعلم وقتها سبب اللقاء وانتظرته حوالى ساعة ونصف، وقتها جاب فى ذهنى أفكار كثيرة حول سر اللقاء اهمها اتهامى بالجاسوسية مثلا ولم يخطر ببالى تماما ان يكون السبب هو اقتراح استخدام الشفرة النوبية، وبالفعل التقيت بالرئيس الراحل أنور السادات اتذكر جيدا مشهده وهو يدخل الغرفة حاملا عصاته بيده اليمنى ويدخن " البايب" كعادته، جلس معى قرابة الساعة وسألنى عن كل شىء حياتى وزوجتى وأطفالى من أجل إذابة الجليد وطمأنتى".
ويضيف إدريس: سعد الرئيس الراحل أنور السادات كثيرا بالاقتراح وضحك بشكل هيستيرى لدرجة اننى وقفت اثناء حديثى معه وظننت انى ارتكبت خطأ ما وعندما سألته ان كان حدث ذلك منى قال " معملتش حاجة غلط وخلاص همشي كلامك " وطلب منى الحفاظ على سرية الموضوع وبالفعل لم يعلم به سوى 5 فقط انا والرئيس وثلاثة من القيادات ولذلك تم اصطحابى مكبلا بالحديد للحفاظ على سرية السبب الحقيقى للقاء .
تطبيق فكرة إدريس كانت تعتمد على تدريب أفراد الجيش من سلاح حرس الحدود ،على استخدام اللغة النوبية بلهجتيها " الكانزي والفاديكى "، يقول إدريس : رجعت من الإجازة لقيت جواب جاء لى من قيادة الجيش بأن يحضر النقيب أحمد محمد أحمد ليباشر كامل مهماته فى الجيش.. وبعدين رجعت لقيت 344 فرد كلهم يتحدثون النوبية منهم 172 بيتكلموا لغة "فاديكى" والـ172 الآخرين بيتكلموا لغة كانزى، وهى لغة نوبية.. وبعد ذلك القائد قالى لى لما تدخل عند جماعتك متقولش لحد السر، انت اللى دخلت اللغة النوبية الجيش علشان هيغيروا منك أو هيبلغوا عليك وأعمل نفسك إن انت جاى من أى وحدة وداخل تتعلم معاهم.. وبعدين قعدنا 10 أيام كنا لابسين ملكى مكناش بنلبس ميرى وكانوا بيدربونا على الأجهزة اللاسلكية.. والناس اللى جت اللى كان بيسأل من دخل اللغة النوبية الجيش كانوا بيقولهم السادات.
وتابع: تم تدريب الأفراد على ارسال واستقبال الإشارة باللغة النوبية وكنا نخرج بالقرب من خطوط العدو نرتدى الجلباب النوبى ولا نحمل سلاح ولا يرانا العدو، فكنا نحصل على كافة المعلومات المطلوبة وحصر عدد مركبات العدو بسيناء وإرسالها بالشفرة النوبية، واستمر عملى بهذه المهمة من 1971 وحتى 5 أكتوبر 1973 قبل الحرب بيوم واحد حيث تم سحب الفريق من المنطقة، وتم توزيعنا على تشكيلات الجيش المصرى فى الحرب.
وعن كيفية استخدام الشفرة فى ارسال واستقبال الاشارات يقول إدريس : كانت أول مرة يسمح الجيش باستخدام الميكرفون فى الإشارة وسمحوا للنوبيين التحدث فى الميكروفونات، وده كان ممنوع فى الجيش، بس سمحوا علشان العدو مش هيعرف احنا بنقول إيه.. وبعد ذلك قاموا بتدريبنا على كيفية استخدام الميكرفون وفك وتركيبه ولو حدث عطل منك كيف تتعامل.
ويضيف: بعد ذلك دخلنا صحراء سيناء، كان ذلك فى سنة 1971.. وكانوا بيساعدونا عرب سيناء كانوا بيجبولنا التعيين، واللى مهد لدخولنا بعد النكسة مباشرة سنة 67 كتيبة من الضفادع البشرية جابوا بطيخ، وقاموا بوضعها فوق رأسهم ونزلوا المياه عائمين واستطاعوا أن يمسكوا بكتيبة إسرائيلية وذبحوهم، ومن بعد ذلك الواقعة العدو بقى يترك 5 كيلو بعيدا عن القناة ويعمل دفاع منطقة وقاموا ينشر بعض الدبابات ليناموا وسطها.
اعتمد إدريس وزملاءه على استخدام اللغة النوبية لرصد تحركات العدو بعد مكوثهم لفترة فى صحراء سيناء ، حيث كانوا يعيشون فى ابيرة ومغارات طبيعية طوال النهار وفى الليل يخرجوا لتجميع معلومات حول العدو خاصة بعدد المركبات فى المنطقة وحجمها "مكنش معانا سلاح كان مهمتنا التجسس فقط، وكنا نتكلم بالنوبى فى وقتها لإرسال الإشارات بتحركات العدو" هكذا يشرح ادريس طبيعة عمله ودوره خلال الحرب .
وحتى لا ينكشف الأمر اعتمد إدريس وزملاءه على حيلة جديدة من نوعها حيث كانوا يطلقون أسماء نوبية على جنود العدو والمركبات فمثلا كان الجندى يطلق عليه اسم " ميسر" والصف ضباط اطلقوا عليهم اسم "فج" يعنى معزة.. والضباط من ملازم حتى رائد أسموهم " ايجت" يعنى "خروف" ومن المقدم حتى اللواء اسموهم " قدش" يعنى حمار، والطائرة "كوارتى" تعنى طائر، و"منكوكى" يعنى الضفادع البشرية، اما المخابرات فأسموها "أوسلمجنى" وتعنى الثعبان وتم اطلاق هذه الاسماء بالاتفاق حتى لا يعرفها العدو "و الدبابة اسميناها "تى" معناها بقرة والعربيات اسميناها "تون" معناها تمساح..كان معانا 20 محطة المحطة الرئيسية اسميناها "أوندى".
يقول إدريس: واستخدمنا اللغة ايضا حتى وقت الحرب عندما اعطى قائد اللواء الاشارة للنوبى اللى معاه قالوا الحرب هتقوم وتعنى فى الاشارة النوبية "السجن دى فكوتى" وتعنى الحرب هتبدأ دلوقتى.. واستخدمنا الكلمات الدارجة فى بلد النوبة.
40 عاما ظل إدريس محافظا على السر الذى وعد الرئيس الراحل أنور السادات به ، ولكنه قرر فجأة افشاءه والخروج عن صمته قائلا : الطلاب يدرسون فى الكلية الحربية أن اللغة النوبية واحدة من أسباب النصر وكان معروف انها استُخدمت كشفرة ولكن لا احد يعلم من وراءها او فكر فى استخدامها ، وظل الامر طى الكتمان حتى 2010 عندما ظهر احد الاشخاص فى الفضائيات مدعيا انه صاحب الفكرة هنا قررت ان اتكلم .
ويضيف: هناك شخص ظهر فى عدد من القنوات التليفزيونية و أدعى أنه صاحب هذا الإقتراح، وهذا الشخص ينتمى لنفس البلد التى أنتمى لها، وعمره حوالى 45 عاما، "ولو اللى بيتكلم مجنون فاللى بيسمع عاقل"، فالفترة الزمنية منذ 1971 وحتى 2010 39 عاما، فهل التحق هذا الشخص بالجيش وعمره 6 سنوات مثلا؟، وبالفعل تمكنت من التواصل مع أقارب هذا الشخص، واكدوا أنه لا يعرف اللغة النوبية، ولم يلتحق بالجيش من الأساس، وبعدها تواصلت معه هو، حيث زعم أنه تقدم بمقترح استخدام اللغة النوبية إلى أمين هويدى، رئيس جهاز المخابرات فى السنوات الأخيرة من عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، رغم أنه لم يكن فى موقع المسئولية وقت استخدام اللغة النوبية، كما تبين لى أنه لا يعرف شيئا عن سلاح الإشارة، وتلعثم عندما حاصرته بالأسئلة، ثم أثبت كذبه أمام الجميع فى إفطار رمضانى عام 2010.
معرفة الدور الذى قام به إدريس فى حرب أكتوبر كان من خلال أحد المسئولين فى القوات المسلحة والذى تواصل معه فى 2014 واحتفى به ورشحه للتكريم فى ذكرى حرب اكتوبر ، يقول صاحب فكرة استخدام اللغة النوبية فى الحرب : أرسلت خطاب إلى مكتب المشير طنطاوى، وأبلغتهم بأن لدى معلومات هامة حول حرب أكتوبر أريد أن أبلغها للمشير، لكن لم يحدث تواصل بيننا، وبعدها حدث تواصلت مع عدد من القنوات الإعلامية والصحف، لكن فى عام 2014، تواصل معى مسئول كبير فى القوات المسلحة، كنت أعرفه منذ أن كان ظابطا صغيرا، لكنى لم أكن قد رأيته منذ ما يزيد عن الـ30 عاما، وطلب منى أن أحضر إلى مكتبه بمجرد وصولى إلى القاهرة، وعندما التقيته احتفى بى بشكل كبير، ورشحنى للتكريم فى ذكرى حرب أكتوبر، وحصلت على درع وزير الدفاع عام 2014.
"إدريس" الذى كرمه الرئيس عبد الفتاح السيسى ومنحه نجمه سيناء ، تقديرا لدوره فى الحرب ظل محافظا على سر استخدام الشفرة النوبية كما طلب منه الرئيس الراحل أنور السادات حتى عام 1994، وبذلك يحتل إدريس بفكرته تلك مكانة وسط أبطال جيش مصر الذين لم يبخلوا يوما بجهودهم وأفكارهم لتحقيق النصر العظيم مثلما فعل الضابط المهندس الراحل باقى زكى يوسف عندما اقترح ايضا فكرة تحطيم الساتر الترابى بخراطيم المياه ليثبتوا للعالم اجمع عبقرية الجندى المصرى لتذليل الصعاب وهزيمة العدو.